فقدان
حسان علي| سورية
كانت هدى تمسك بكفّ أمها الباردة المتجلدة وقد استوطنتها العروق ولم تعد العين ظاهرة بعد أن غارت في تضاريس وجهها المتجعد.. كانت أمها تحاول أن تفتح عينيها من حين لآخر ..ترمقها بنظرات أصابها الذهول ثم تعود لتغمضها.
كان هناك دافع ما خفي يجذب الحواس الى جوفها لتنقطع عن عالمها الخارجي وما يحيط بها،كانت فقط أصابعها بين يدي هدى ترتعش من حين لآخر،تعلن عن بقية حضور بدأ ينسحب شيئاً فشيئاً ما جعل هدى تنفخ في تلك الكفّ وتفرك أصابعها كي تمنحها بعض الدفء من حرارة جسمها لعله يشحذ الجسد المسجى على السرير في حين وضعت كفها الأخرى على جبين أمها وقد راعها ما رأته من الأخاديد المحفورة على وجهها وراحت تمسك بخصلات الشعر المتناثرة وتسحبها الى الخلف ممعنة بالجسد المسجى أمامها، خيل اليها وقد غامت الرؤية حولها أنها أمام وجه آخر لا تعرفه وكأنها تراه لأول مرة، التجاعيد العميقة حول العينين ونتوء الوجنتين كان الفم مفتوحاً، متشقق الشفتين وقد برزت منه بقية أسنان منخورة .
كانت هدى تحيط رأس أمها بذراعها وتسوّي الغطاء لتحفظ لهذا الجسد بقية من حرارة تشهد له بالحياة،كانت تنظر الى مساحة هذا الجسد الذي تقلّص الى أبعد حد وكأنه يروم العودة من حيث جاء تتذكرها كيف كانت فيما مضى من أيام تنعم بالقوة والحيوية والنشاط وكيف انها كانت تلوذ بها من مخاوف الحياة وارباكاتها ويكفي أن تراها تذهب وتجيء وسط البيت لتشعر بالأمان فيخيل اليها أنّ العالم كله لا يقدر أن ينال من أمنها وهي معها.
لم تنس هدى كيف عاشت طفولتها كلها مسنودة الرأس الى حجرها الدافئ تخلل شعرها أصابع رحيمة تشعرها بالأمان والارتياح من داخل أعماقها وتضيء ما أربدّ فيه من الهواجس فتندفع الأحلام تمرح بلا قيد.
وفجأة تمتمت هدى وهي غافية على بساط حلمها الوردي لا يمكن أن تكون هذه أمي!.
لا أصدق وراحت تعدّل الرؤية علّها تكتشف الخلل في عينيها لا في ما تريانه.
خامرتها للحظة أفكار غريبة بدت لها في حينها معقولة جداً وهي أن يكون الأطباء بالمستشفى قد خلطوا بين أضابير المرضى وذهبت هدى بأفكارها يمكن أن يحدث وتساءلت مرة أخرى: أليس هذا الذي يرقد أمامها مجرد جسد هزيل هشّ لا حول له ولا قوة.
كانت ما تزال منغرسة في تهجية هذا الجسد المكدود الذي أغرب في التحوّل الى حدود يفقد معها الرشد ،أحسّت وهي تتفرس في غرابة هذا الجسد بدفقات كالحمم موجعة تداهمها من أعماقها من كلّ صوب وتستقر في سويداء الروح فينفجر الصدر وينطلق الألم شريط عويل طويل ،مديد يطوي المراحل والمسافات يصوغ تفاصيل الطينة المهدورة منذ الأزل، ومضت بها الذكريات الى غير مكان،هزّت رأسها في سخرية عندما اندلقت عليها صور الماضي دفعة واحدة ووجدت نفسها تقول لتنفي التهمة عنها:
أنا غريمة أمي ،غريمتها في ماذا؟ في أبي الذي لطالما هجرها بسببي عندما أخبرته الداية بولادتي وهو المتهيئ لاستقبال الصبي وكم آلمه الأمر واستبدت به مشاعر الغضب ،كنت له أنا المشكلة التي أرّقت له حياته طيلة سنوات،تودّ هدى أن تعتذر لأمها عمّا سببته لها من ألم وعمّا عانته من قسوة بسببها .
لم تعرف كيف وجدت نفسها فجأة في الشارع وكيف غادرت المستشفى ،هي لا تدري بعد الى أين تذهب وقد أطلقت العنان لحواسها تلتقط كلّ علامات الحياة وقد انبعثت روائح البهارات والبخور من المحلات المقفلة،كانت تسير على الأرصفة الضيقة وفي رأسها تتزاحم الأفكار والأسئلة المبهمة ،كان بودّها أن لا تعود الى البيت وهي تدري أنه عاد الآن قبراً وراحت تطرق رأسها آلاف الأسئلة الغامضة لماذا تغلق المدن أبوابها ليلاً ؟! وبأي شارع يلوذ الملتاع وماذا يفعل من يضيق به البيت وتغلق عليه أبواب السماء الى أي مكان يذهب ومن أين يستمد الأمان ليقوى على ترميم ما تهاوى من نفسه كي ينهض من جديد ؟!
فكرت هدى أن تلجأ في هذه الأثناء الى حبيبها ،أن تندس في حضنه ،أن تبكي كلّ أوجاعها بين ذراعيه دفعة واحدة وأن تقول له يتمها كلّه فيدثرها بسيل من الحنان الجارف ويقيها توقف النبض وتعطّل الحواس لكنها كانت تدري أنه الآن في مكان آخر تتقاسمه امرأة أخرى.