الحضور في سيرة غسان كنفاني للكاتب الرفيق محمود شقير
سميح محسن | فلسطين
بمناسبة الذكرى الخمسين (الثامن من تموز/يوليو) لاغتيال الكاتب الفذ الشهيد غسان كنفاني، صدر كتاب “غسان كنفاني إلى الأبد” للروائي والقاص الكبير الرفيق محمود شقير محمود شقير، وذلك ضمن مشروع وزارة الثقافة للحفاظ على الرواية الفلسطينية وملتقى فلسطين للرواية العربية، وبالتعاون مع مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، والكتاب سيرة للفتيات والفتيان. وكما هو عهدنا به دائما، فقد قدّم الكاتبُ الشهيدَ كنفاني بالصورة التي تليق بهما، وبأسلوب جمع فيه بين السرد والمقالة الأدبية، وفتح العديد من النوافذ التي تطل على إبداعاته المتنوعة من كتابة القصة والرواية والمسرحية والمقالة السياسية والعمل الصحفي، وصولاً إلى تجربته في العمل السياسي والفن التشكيلي.
قسّم الكاتب كتابه إلى أربعة فصول، وعنون كلّ واحد منها بمقولة للكاتب الشهيد غسان كنفاني، وجاءت على النحو التالي: الأطفال هم مستقبلنا، لا تمت قبل أن تكون ندّاً، أحياناً يحسب المرء أنّ قصةً ما انتهت فإذا بها تبدأ، وأخطأنا عندما اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط. وفي هذه القراءة سأحاول تسليط الضوء على بعض مفاصل الكتاب.
حضور الطفل في السيرة
منذ الصفحة الأولى في الكتاب يحضر الطفل بصورتين، الأولى صورة الطفل الذي في داخل الكاتب، والثانية في سؤاله عن “لميس” ابنة شقيقة كنفاني التي أحبّها حباً غامراً، وكأنّ هذا الحب قادها للاستشهاد برفقته، وذلك أثناء توجه الكاتب إلى بيت كنفاني في بيروت عام 1965 لزيارته، وسؤال الطفل إن كانت في بيت خالها. وحضور الطفل في داخل الكاتب أخذ العديد من الأوجه والحالات، وذلك من خلال ظهوره متسائلاً ومناقشا ومشاكساً، أو من خلال استحضار الكاتب للطفل في أعمال كنفاني كمجموعته القصصية الموجهة للأطفال “القنديل الصغير” والتي أهداها لإبنة شقيقته “لميس”، وكذلك في مجموعاته القصصية ورواياته العديدة، حيث قدّم الطفل في حالات عديدة.
استعراض إبداعات كنفاني
بعيداً عن الأسلوب التلقيني والنقدي الجاف، استعرض الكاتب محمود شقير العديد من أعمال كنفاني، وسلّط الضوء على شخصياتها المختلفة، وقدّم تحليلاً لها من خلال حواراته مع الطفل في داخله في أسلوب سرديٍّ سلس. وخلال حواراتهما حاول إظهار المفارقات بين الأسماء التي وردت في أعماله. فعلى سبيل المثال، استخدم كنفاني اسم “أسعد” في روايته الأولى “رجال في الشمس” كمثال على الذل والهوان، إلا أنه استخدمه في قصة “حامد” في مجموعته القصصية الرابعة “عن الرجال والبنادق” ثائراً متمرداً، وكذلك اسم “أبو قيس” الذي يرفض الذل والهوان في رواية “الأعمى والأطرش” بينما قضى نحبه في خزان “رجال تحت الشمس”. وهناك أمثلة عديدة على ذلك.
وحمل الكتاب أيضاً وجهة نظر نقدية لأعمال كنفاني من خلال تتبع التطور التقني فيها، وتنويع موضوعاتها، وانحيازه فيها بشكل كامل للطبقات الفقيرة والمتمردة على واقعها، دون التنازل عن أعلى درجات الشروط الفنية للكتابة. لقد كانت فلسطين في جميع كتاباته الأكثر حضوراً من خلال ناسها الذين شُرِّدوا عن وطنهم الأصلي، ولم يرضوا عنه بديلاً، وتحولوا مع مرور الوقت من حالة الذل والهوان إلى حالة التمرد والثورة. ألم يقل غسان على لسان “أم سعد” في روايته التي تحمل اسمها: “خيمة عن خيمة تفرق”.
انحياز واضح للفكر اليساري
لم يُخْفِ الكاتب الرفيق محمود شقير تسلحه بالفكر اليساري وانحيازه للطبقات الفقيرة، لا في سلوكه اليومي، ولا في كتاباته الإبداعية، ولا في مقالاته السياسية والأدبية. وفي كتابه هذا يسلط الضوء على التوجهات الفكرية والأيديولوجية للشهيد كنفاني. وفي التقاطتين ذكيتين في الكتاب يشير إلى توجهه ذلك، مستخدما الرمزية في إحدى الحالتين اللتين سأشير إليهما . ففي (ص17) يسرد الكاتب على لسان صديقه محمد (هو الرفيق الراحل الناقد محمد البطراوي لروحه السلام) مايلي:
“أخبرني صديقي محمد أنّه كان مطارداً من الحكومات عام 1957، وما تلاه من أعوام، مع مئات من رفاقه المنتمين إلى فكر اليسار، هذا الفكر الذي وصفته حكومات عربية بأنّه فكر هدّام، وهو غير هدّام بطبيعة الحال، لأنّه يدعو إلى احترام الرأي والرأي الآخر، وإلى المساواة بين المرأة والرجل، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية للعمال والفلاحين الفقراء، وعدم احتكار الثروات في أيدي قلة قليلة من الأغنياء.”
وفي (ص 30) يسرد الكاتب على لسان طفله أنه بينما كان يسير في شوارع بيروت بعد عودته من زيارة غسان وصل إلى ملعب كرة قدم كان اللاعبون يحتاجون إلى لاعب واحد ليكملوا العدد. انضم الطفل إلى الفريق الذي يقف إلى اليسار، وحقق فريقه الفوز على الفريق الخصم.
إحالات عديدة لمجلات وصحف ومبدعين
صحيح أنّ كتاب “غسان كنفاني إلى الأبد” يخرج عن كونه كتاباً تعليمياً، إلا أنّ كاتبه تعمّد أثناء سرده لبعض جوانب حياة الشهيد كنفاني أن يمرّ على الصحف والمجلات التي عمل فيها قبل اغتياله في بيروت عام 1972، وذلك في طريقة ذكية لإحالة المستَهدَفين الأساسيين في الكتاب إلى تلك الصحف والمجلات، مثل صحيفة “المحرر” و”الصيّاد” و”الهدف” التي أسّسها ووشمها بعبارة “الحقيقة كل الحقيقة للجماهير”، وغيرها أيضاً. وكذلك عمد إلى إحالة القارئ إلى عدد من المبدعين الفلسطينيين المؤسسين لحركتنا الثقافية المعاصرة مثل: محمد البطراوي، إميل حبيبي، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وغيرهم. ولم ينسَ الكاتب أيضاً إحالة القارئ إلى تجربة مجلة “الأفق” التي كانت تصدر في مدينة القدس قبل احتلالها، وقدّمت العديد من أبرز الكتاب الفلسطينيين، وكان محمود شقير أحدهم. ومن تلك الإحالات الهامة والذكية تجربة مجلتي “شعر” و”حوار” اللتين كانتا تصدران في بيروت، ويُنَظّرُ كتابها لمدرسة “الفن للفن” مقابل مدرسة الالتزام في الأدب، وتبين في وقت لاحق أن هاتين المجلتين كانتا ممولتين من “منظمة حرية الثقافة” الأمريكية التي كانت واجهة للمخابرات المركزية الأمريكية، وكان كنفاني وغيره كثيرون من الكتّاب العرب ضد توجه هاتين المجلتين.
بيروت الجميلة والحزينة
مرّ الكاتب على مدينة بيروت مرتين، الأولى عام 1965 عندما زارها للمرة الأولى، وزار خلالها غسان كنفاني في منزله، حيث وصف جمالها وبهاءها وبحرها وتعددها وانفتاحها على العالم، كما وصف نساءها الجميلات والأنيقات، ومائدة طعامها الشهية. وأما الزيارة الثانية فكانت عام 1975 عندما أبعدته سلطات الاحتلال الغاشم إلى جنوب لبنان، وانتقل إلى مدينة بيروت ليعيش فيها ثمانية أشهر قبل شدّ الرحال إلى مدينة عَمّان. وأثناء هذه الزيارة كانت إرهاصات الحرب الأهلية التي امتدت خمس عشرة سنة بادية للعيان.
استحضار غسان مرتين في المخيال الأدبي
عندما التقى شقير مع كنفاني عام 1965، عرض عليه الأول زيارة مدينة القدس قبل احتلالها، ولكن ذلك لم يتحقق، فاستحضره في الحلم وسارا برفقة صديقهم المشترك (أبو خالد البطراوي) في شوارعها، ومرّوا على مقاهيها ومطاعمها، وكأن الكاتب لا يترك كتاباً له وإلا أحضر القدس التي تسكنه فيه. وكانت المرة الثانية التي استحضره فيها أثناء إبعاده إلى لبنان عام 1975 وتجوّله برفقته إلى الأماكن التي كان للشهيد كنفاني علاقة بها.
المثقف العضوي
كان غسان كنفاني مثقفاً عضوياً بالمفهوم الذي كرّسه المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، حيث قرن القول بالفعل، وسخّر كافة أعماله الأدبية، وجهوده الصحفية، ولوحاته الفنية وفكره التقدمي لخدمة الجماهير وقضاياها النضالية حتى غداً شهيداً ليكون من أبرز من كتبوا بالدم لفلسطين.
كان مكرّسا للحياة وليس للموت
رغم معاناته المبكرة من داء السكري ومرض النقرس، إلا أن الكاتب محمود شقير يؤكد في كتابه أن كنفاني كان مكرّساً للحياة وليس للموت. وفي هذا الكتاب يستعرض في أماكن عديدة منه على حبه للحياة، لشقيقته فايزة وابنتها لميس التي اختلط دمها بدمه لحظة استشهاده، ولزوجته الدنماركية آني، ولابنه فائز وابنته ليلى، كما ويتطرق إلى علاقته بالكاتبة السورية غادة السمان التي نشرت رسائله إليها في كتاب بعد عشرين عاماً على استشهاده. وبالفعل فإنّ غسان مكرّس للحياة، وإلا لما شهدنا حضوره الطاغي، ليس في الفضاء الثقافي والنضالي الفلسطيني فحسب، وإنما في الفضاء العالمي، وذلك رغم مرور خمسين عاماً على غيابه الصاعق.
تمرير بعض القيم الأخلاقية والنضالية
في أكثر من مكان في الكتاب، وبطريقة غير مباشرة، مرّر الكاتب العديد من القيم الأخلاقية والنضالية في الكتاب، وبخاصة تلك التي وردت على لسان كنفاني أو شخوصه في كتاباته القصصية والروائية، أو على لسان الكاتب نفسه. ومن أمثلة ذلك: “الثرثرة الزائدة تقلل هيبة الإنسان” ص12؛ “كلّما فكرنا بحل لأيّ مشكلة فلا بدّ من العثور على الحل” ص23؛ “لا تمت قبل أن تكون ندّا، لا تمت” ص49؛ “القفص سجن والسجن مكروه في كل الأحوال” ص63؛ “لا يكفي الانتباه إلى الماضي، بل كذلك إلى المستقبل” ص68، وبالتأكيد هناك العديد من القيم في الكتاب.
أحيانا يحسب المرء أن قصة ما انتهت فإذا بها تبدأ
هذه إحدى مقولات غسان كنفاني التي عنون فيها الكاتب الجزء الثالث من كتابه “غسان كنفاني إلى الأبد”. عندما وضعت حكومة الاحتلال الإسرائيلي خطة لاغتيال عدد من كبار القادة والمبدعين الفلسطينيين كانت تظنّ أنها بجرائمها البشعة والدامية تلك تنهي حياتهم إلى الأبد، إلا أنّ ما حدث هو العكس تماماً، فقد بدأ حضورهم لحظة اغتيالهم، فأبناء جيلي على سبيل المثال لم يكن يعرف الكثيرون منهم مَن هو غسان كنفاني، وبالتالي لم يكن قد قرأوا أعماله، إلا أنّهم في وقت لاحق تتلمذوا على منجزه الإبداعي الذي لم يزل ينتقل من جيل إلى جيل…
وفي النهاية أضم صوتي لصوت الصديق العزيز الكاتب إبراهيم جوهر ابراهيم جوهر واقتراحه في تدريس هذا الكتاب ضمن منهاج التربية الوطنية، وكما ذكر الصديق عصام عاروري Issam Aruri أن هذا الكتاب، وإن كان موجّهاً للفتيات والفتيان، إلا أنّه يصلح لكل الأعمار.