المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي (3)
أ. د. يوسف حطّيني | شاعر وناقد أكاديمي – جامعة الإمارات
الشعراء يستفتون القلوب
إذا اللّيلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى
وأذْلَلْتُ دمـــعاً مــن خلائقـــه الكِبْرُ
أبو فراس الحمداني
قبل بضع سنوات جاء أحد طلابي إلى مكتبي؛ ليشرح لي حاجته الماسة إلى تقدير (A) في المادة التي أدرّسها له، وساق لبيان حاجته مسوّغين اثنين: أولهما أنه درس للمادة بشكل ممتاز، وثانيهما أنه يدرس في الجامعة بموجب مِنحةٍ دراسيّة، وهذه المنحة سيُحرم منها إذا انخفض تقديره عن حدّ معين.
أخبرته بالطبع أنّ التقدير مرتبط بنشاط صفي وبحث وامتحانات إلى غير ذلك مما يعرفه المدرسّون والطلاب، وأنّ الظروف التي يتحدّث عنها تقع خارج إطار نظام التقويم، ونصحته بمزيد من الجدّ والاجتهاد.
ولا أشكّ في أن معظم المدرّسين في مستويات التعليم المختلفة قد تعرّضوا إلى مثل هذا، ويمكن أن نوسّع الأمر أكثر؛ لنشير إلى أنّ المدراء العامين ورؤساء الشركات والمتنفذين في أية مؤسسة يتعرضون لمثل هذا الابتزاز العاطفي، غير المنطقي، فكم من موظّفة مهملة سألت مديرها زيادة مرتّبها الشهري؛ لأنّه لا يكفيها، وكم من موظف كسول طلب من مديره ترفيعاً إدارياً؛ حتى لا يصابَ والده بخيبة.
هنا يرتكب طالبو الحاجات السابقة مغالطة منطقية تسمّى مغالطة “استدرار المشاعر” أو “مناشدة الشفقة (Appeal to pity)” التي تقوم على “أن يستعمل الشخص العاطفة واللعب بالمشاعر في أثناء استدلاله للتأثير على حكم الطرف الآخر[1]“؛ إذ إن من حقّ الطالب أن يراجع ورقة الامتحان، ويعترض على ظلم أصابه، ومن حق الموظفة أن تطلب زيادة مرتبها نظير عملها المتقن، ومن حق الموظف أن يطلب ترفيعاً تجاه تميّزه في تأدية واجبه، والمشكلة في هذه المغالطة أنّاستثارة الانفعال لا تتوافق مع موضوع الحجة.
يورد الأستاذ عادل مصطفى على هذه المغالطة المثال التالي:
“في الثمانينيات من القرن التاسع عشر أثبت الادّعاء في محكمة فرجينيا بالدليل الدامغ ضلوع صبيّ بقتل والديه بفأس، فما كان من الدفاع سوى أن دفَعَ ببراءة الصبيّ قائلاً: أليس يكفي أنه أصبح يتيماً، لا أحد يتولّى أمره؟![2]“.
هذا مثال صارخ على لجوء الدفاع إلى استدرار العطف في غير موضعه، لأنّ الصبيّ القاتل ذاته هو من كان سبباً في اليتم، وفي حرمان أبويه من حياتهما؛ وهو ما يستحضرُ الاستشهاد بقول المتنبي:
ووضع النّدى في موضع السيف بالعُلى[3]
مضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى[4]
ويوضّح الأستاذ عادل أن الاعتراض المنطقي ليس على انفعال العطف ذاته، بل على كونه غير مرتبط بالحجة، ويلفت النظر إلى أنّ مخاطبة الوجدان قد تكون مشروعة، “وذلك حين يكون الانفعال نفسه هو موضوع الحجة، أو سبباً ذا صلة بقبول النتيجة، فقد أختار أن أشتري نفس الجريدة بنفس السعر [هكذا في الأصل] من بائع ضرير لكي أهوّن عليه عمله الشريف[5]“.
وربما يكون الأمر أقلّ بشاعة، وأكثر قبولاً على الرغم من ارتكاب المغالطة ذاتها، حين لا تسبّب الاستجابة للانفعال ضرراً على المجتمع، على نحو ما نجد في كثير من أمثلة استدرار المشاعر على مدى تاريخ الأدب العربي الذي يحفل بحكايات وقصائد تجسّد استثمار المشاعر في غير موضوع الحجة؛ فتتم الإفادة من هذه المغالطة التي يترجمها رشيد الراضي “سفسطة الاسترحام”، ويشير إلى أنها تتم عبر “استدعاء الرحمة والشفقة لأجل قبول صدق الفكرة، حيث يعمد صاحب الرأي إلى إبراز بعض الأحوال المتعلقة به، والباعثة على الشفقة؛ ليبني عليها دعوة المخاطب لقبول رأيه[6]“، وهو يجرّها منطقياً على الشكل التالي:
- ـزيد يعرض القضية (أو القضايا) (ق) في سياق الدفاع عن الفكرة (ف)، وذلك بقصد خلق الإحساس بالشفقة.
- إذن الفكرة (ف) صادقة[7].
كلّنا نتذكّر اعتذاريات النابغة الذبياني التي أرسلها إلى النعمان بن المنذر، بعد أن مدح الغساسنة، لاستشفاعهم في أسرى قبيلته؛ إذ لم يغفر له النعمان “زلة” مدح أولئك الذين يعادونه ويعاديهم، بعد أن مدحه النابغة بعيون القصائد، فجاء اعتذار الشاعر من غير نوع الحجة، بالمدح حيناً وبذمّ الواشين أحياناً. ومن ذلك قوله:
فإن كنتُ لا ذو الضغنِ عني مكذّبٌ
ولا حلفي على البراءةِ نافعُ
ولا أنا مأمُونٌ بشيءٍ أقُولُهُ
وأنتَ بأمرٍ، لا محالةَ، واقعُ
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنك واسِعُ
وأنتَ ربيعٌ يُنعِشُ النّاسَ سَيبُهُ
وسيفٌ، أُعِيَرتْهُ المنيّةُ، قاطِعُ[8]
ومن أمثلة استثمار تلك المغالطة أيضاً وفود علقمة الفحل على الحارث بن أبي شمّر الغساني، واستعطافه بقصيدة لإطلاق سراح أخيه شأش الذي أسره الحارث مع سبعين رجلاً من بني تميم في يوم حليمة[9]، ومما قاله:
إلى الحارث الوهاب أعملتُ ناقتي
لكلكلها والقصريين وجيبُ
لتُبلغني دار امرئ كان نائياً
فقد قرّبتني من نداكَ قَروبُ
إليك ـ أبيتَ اللعن ـ كان وجيفها
بمشتبهات هولهنّ مجيبُ
فلا تحرمنّي نائلاً عن جَنَابةٍ
فإني امرؤ وسط القباب غريبُ[10]
ومن ذلك أيضاً ما نلحظه في حكاية القصيدة اللامية الشهيرة “بانت سعاد” التي قالها كعب بن زهير في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فقد هجا كعبٌ النبيَّ الأكرم، وتشبب بنساء المسلمين، فأهدر النبيُّ دمه، وضاقت عليه الدنيا، فاستشفعه بالقصيدة المشار إليها، ومنها قوله:
أُنْبِيتُ أنّ رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمولُ
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم
أذنب وقد كثرت عنّي الأقاويلُ[11]
هنا، وكما في كل الحالات المشابهة، يدير الشاعرُ ظهره لخطئه، ويستثمر لغة الشعر التي طالما أحبّها العرب وتغنوا بسحرها. وفي قصة الشاعر الحطيئة مع خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب استثمارٌ جليّ لهذه المغالطة من قبل الشاعر؛ فقد هجا الحطيئةُ الزبرقانَ بن بدر هجاءً مرّاً، فحبسه عمرُ في ذلك، غير أنّ الحطيئة لم يزل يستشفعه؛ حتى أخرجه من الحبس في أبياتٍ منها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ
حُمْرِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
غيّبتَ كاسبَهم في قعر مُظلمةٍ
فاغفرْ عليكَ سلامُ الله يا عمرُ[12]
ويلفت النظر في هذا الخبر أنّ عمر بن الخطاب أجّل العفو واشترط فيه، إذ رفض العفو عن الحطيئة حين خاطبه بقوله:
أعوذ بجدّك إني امـرؤٌ
سقتني الأعادي إليك السّجالا
فإنك خيرٌ مـن الزبرقان
أشدّ نكالاً وأرجــى نوالا
تحنّنْ علـيَّ هداك المليكُ
فإنّ لكلّ مقـــامٍ مقـالا[13]
جرّب الحطيئة طريقة المدح التي لم يستجب لها الخليفة الثاني، فالخليفةُ نفسه لا يرى أنه “خير من الزبرقان”؛ والمقياس في التفاضل عنده تقوى الله؛ وعلى الرغم من أنه استجاب للأبيات التي يستعطفه الحطيئةُ فيها بجوع أبنائه، فإنه اشترط ألا يهجو الشاعرُ أحداً حتى لا يعيده إلى الحبس.
وإن ينس المرء فإنه لا ينسى خبر أبي محجن الثقفي في القادسية، وكان قد دخل السجن بسبب إقباله المستمرّ على شرب الخمر؛ إذ أخرجته زوجة سعد بن أبي وقاص من سجنه، بسبب أبيات قالها؛ لتتيح له الإسهام في تلك المعركة، وهي الأبيات التي تقول:
كفى حَزَناً أن تُطعَنَ الخيلُ بالقنا
وأُصبِحَ مَشدوداً عليَّ وَثَاقيا
إذا قُمتُ عنّاني الحديدُ وأُغلِقَت
مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُناديا
وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ
فأصبحتُ منهم واحداً لا أخا ليا
فإن مُتُّ كانت حاجةً قد قَضيتُها
وخَلّفتُ سَعداً وحدَه والأمانيا[14]
وقد كان لهذه الأبيات التي تخاطب القلب والوجدان، وتغفلُ سبب الحبس، أثر كبير في نفس زوجة سعد/ المتلقي؛ لذلك أخرجته من السجن وأعطته حصاناً، فخرج إلى القتال وأبلى بلاء حسناً. وتذكر تتمة الخبر أنه عاد إلى حبسه حين انتهى القتال، وأن سعد بن أبي وقاص لما عرف القصة من زوجته أطلق أبا محجن، ووعده ألا يحدّه في الخمر أبداً، فحلف أبو محجن ألا يقرب الخمر أبداً[15].
وثمة حادثة يوردها الأتليدي في كتابه “إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس” تبين استخدام هذه المغالطة شعراً ونثراً. قال الأتليدي: “سرق شاب سرقة، فأُتي به إلى المأمون فأمر بقطع يده، فتقدم لتقطع يديه، فأنشد الشاب يقول:
يدي، يا أمير المؤمنين، أعيذها
بعفوك أن تلقى نكالاً يشينُها
فلا خير في الدنيا ولا راحةً بها
إذا ما شمالٌ فارقتها يمينُها
وكانت أم الشاب واقفةً على رأسه، فبكت وقالت: يا أمير المؤمنين إنه ولدي وواحدي، ناشدتك الله إلا رحمتني، وهدّأتَ لوعتي، وجُدتَ بالعفو عمّن استحقَّ العقوبة.
فقال المأمون: هذا حد من حدود الله تعالى. فقالت: يا أمير المؤمنين! اجعل عفوك عن هذا الحد ذنباً من الذنوب التي تستغفر منها. فرق لها المأمون وعفا عنه[16]“
ويلاحظ القارئ أن الاستشفاع الشعري في الحدّ الإلهي لم يجد نفعاً، وجاء الاستشفاع النثري الذي ترسّخه الأم، بما لديها من قوة عاطفة وتأثير، لينال الشابّ عطف المأمون وعفوه في واحد من أمثلة لا تكاد تحصى تبين أثر استثمار هذه المغالطة في تخفيف غضب ذوي السلطان[17].
وبالطبع فإن استعطاف ذوي النفوذ لم يكن الشكل الوحيد لتعمّد هذه المغالطة في الشعر، ولنا في الشعر العربي قديمه وحديثه أمثلة على استعطاف المحبوبة، من مثل ما نجد عن جميل وابن زيدون، وغيرهما، يقولُ جميلٌ مخاطباً حبيبته بثينة:
أمَا تتقينَ الله في قتل عاشقٍ
لهُ كبدٌ حَرّى عليكِ تَقَطَّعُ
غريبٌ مشوقٌ مولعٌ بادّكاركم
وكلّ غريبِ الدّارِ بالشّوقِ مُولَع[18]
وأما ابن زيدون فقد حاول استرضاء ولّادة بقصائد متعدّدةٍ منها نونيته الشهيرة[19]، بعد أن غضبت منه، لأسباب اختلف عليها الرواة، منها أنه ضربها ذات مرة، فلم تغفر له هذه الزلّة، وها هو ذا يقول:
إِن تَكُن نالَتكِ بِالضَربِ يَدي
وَأَصابَتكِ بِما لَم أُرِدِ
فَلَقَد كُنتُ لَعَمري فادِياً
لَكِ بِالمالِ وَبَعضِ الوَلَدِ
فَثِقي مِنّي بِعَهدٍ ثابِتٍ
وَضَميرٍ خالِصِ المُعتَقَدِ
وَلَئِن ساءَكِ يَومٌ فَاعلَمي
أَن سَيَتلوهُ سُرورٌ بِغَدِ[20]
فإذا انتقلنا إلى الأدب الحديث والمعاصر سعياً وراء تجلي تلك المغالطات فيه، واستثمارها بما يحقق غاية الشاعر، ويرفع السوية الفنية للشعر، أمكننا أن نشير إلى عدة نماذج منها ما قاله محمود سامي البارودي الذي قاسى ألم الفراق، وكدر العيش ونكده، وتأمّل في عودة الوصال إلى سابق عهده، فقال:
يا غاضبينَ علينا هلْ إلى عِدَةٍ
بالوَصْلِ يَوْمَ أُناغي فيهِ إِقبالِي
غِبْتُمْ؛ فَأَظْلَمَ يَوْمِي بَعْدَ فرقَتِكُمْ
وساءَ صُنعُ اللَّيالي بَعدَ إجمالِ
قد كُنْتُ أَحْسِبُني مِنْكُمْ عَلى ثِقَةٍ
حتَّى منيتُ بما لمْ يجرِ في بالي!
لَمْ أَجْنِ في الحُبِّ ذَنباً أَستَحِقُّ بِهِ
عتباً، ولكنَّها تَحريفُ أقوالِ[21]
ومن ذلك أيضاً ما قاله إبراهيم طوقان لمحبوبته التي اتهمها بالغدر زوراً وبهتاناً، وجاءها بندمه وحسرته ودموعه؛ ليطلب عفوها ووصالها قائلاً:
اغفري لي إِذا اتَهَمتُك بِالغَد
رِ فَـقَـد كُنتُ غائِباً عَن صَوابي
اغـفـري لي لَعـل مـا كانَ مني
صَرخة الهَول عِندَ مَرأى عَذابي
وَصَـدى اليَـأس رَجّـعـتـه ضُـلوعي
أَو بُـكـائي عَلى أَماني الشَبابِ
اغفري لي ما قلته في جُنوني
وَتَـعـالي أَشـرح إِلَيـك مـصـابي
يـا حَـياتي لا تَغضَبي وَتعالي
عـانِـقـيـني وَأَقصري مِن عِتابي
حـسـب قَلبي عَذابه فَاغفِري لي
يـا حَـيـاتـي فَقَد لَقيتُ عِقابي[22]
ومن ذلك أيضاً الاعتذار الذي قدّمه نزار قباني عن شعر، لم يتب عنه، إلى حبيبة تحزنها الكلمات، فجاء ذلك الاعتذار عبر الكلمات:
أقدّمُ اعتذاري
لوجهك الحزينِ
مثل شمسِ آخرِ النَّهارِ
(…) عن كلّ ما كتبتُ
من قصائدٍ شريرةٍ
في لحظةِ انهياري
فالشعرُ يا صديقتي منفايَ واحتضاري
طهارتي وعاري
ولا أريد مطلقاً
أن توصمي بعاري[23]
كما يمكن أن نشير إلى نص قصير لواحد من الشعراء المحدثين، يستغفر فيه حبيبته، فقد خاطب الشاعر حمد محمود الدوخي حبيبته بمجموعة من الأبيات، مبّيناً أثر حضورها في حياته. وهنا تحضر العاطفة والمشاعر، أما الذي يغيب فهو الحجة، ولا تتم الإشارة للذنب إلا لمحاً؛ لثقة الشعراء أن الطريق إلى القلوب لا تحكمه قوانين الدخول إلى العقول. يقول الدوخي:
اغفري لي،
إذا أسأتُ
إليكِ
ودعيني
أموت بين يديكِ
واجمعيني
كم بعثرتني
الليالي،
وانثريني
على مدى
مقلتيكِ
ثمَّ نامي،
بحقل قلبي
وغنّي
فالهوى كله
على شفتيكِ
اغفري لي
لأنّ ذنبي عظيم
ولأني
أخاف مني
عليكِ[24]
ولعلّ من أجمل اعتذاريات الشعراء التي تخاطب القلب والوجدان تلك التي يجعل فيها الشاعر للمكان قلباً خافقاً يتأثر، فيخاطبه، بما يثير المشاعر، بعيداً عن أيّة نزعة عقلية، ويحضرني هنا مثالان: أولهما تراثيّ لمجنون ليلى، وثانيهما حديث لنزار قباني؛ فلقد بكى مجنون ليلى أمام جبل الثوبانِ بكاء أثّر في الجبل الذي لاقى المجنون بين هضابه خافقاً ينبض، ولُبّاً يتعظ. يقول المجنون:
وَأَجهَشتُ لِلثوبانِ حينَ رَأَيتُهُ
وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ
وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم
حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زَمانِ
فَقالَ مَضَوا وَاستودَعوني بِلادَهُم
وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثانِ[25]
وبعد أن ملأ نزار قباني قصيدته “أنا يا صديقة متعب بعروبتي” بالغضب، عاد إلى قرطاجة التي طلب منها غفران غضبه؛ لأنّ مشاعره غلبته، فجاء طلب الغفران على النحو التالي:
قرطاجةٌ قرطاجةٌ قرطاجةٌ
هل لي لصدركِ رجعة ومتابُ
لا تغضبي منّي إذا غلبَ الهوى
إنّ الهوى في طبعه غلّابُ
فذنوبُ شعري كلُّها مغفورةٌ
والله جلَّ جلالُهُ التّوابُ[26]
هكذا هم الشعراء، يطلبون غاياتهم بلا منطقهم الشعري، وقلّ عندهم أن يخاطبوا المتلقي بلغة العقل والحجة، وربما نجح بعضهم في تحقيق غايته بالوصال أو النوال، وربما عاد بعضهم بخفي حُنين، ولكنّ كثرتهم الكاثرة خاضت رهانها في تغليب لغة القلب على لغة العقل.
المراجع والإحالات والمصادر
[1]يوسف صامت بو حايك: رجل القش، مرجع سابق، ص62.
[2]عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، ص93.
[3]هكذا في الأصل (بالألف المقصورة).
[4]المتنبي: ديوان المتنبي، مصدر سابق، ص372.
[5]عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، ص95.
[6]رشيد الراضي: الحجاج والمغالطة، مرجع سابق، ص29.
[7]المرجع نفسه، ص29.
[8]النابغة الذبياني: ديوان النابغة الذبياني، شرح وتقديم: عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1996، ص ص56ـ57. وتتقاطع هذه الرؤية التي نتسحق أمام القوة المنتفذة، وتحاول الانتماء إليها، مع مغالطة أخرى يطلق عليها اسم مغالطة الاحتكام إلى القوة التي سيمرّ الحديث عنها في فصل لاحق.
[9]يوم حليمة: يوم جرت فيه معركة بين المنذر بن ماء السماء، والحارث بن أبي شمّر الغساني. وحليمة هي بنت الحارث التي طيّبت الفرسان قبل ذهابهم إلى المعركة.
[10]علقمة بن عبد التميمي: ديوان علقمة بن عبدة التميمي (المشهور بعلقمة الفحل)، برواية الأعلم الشنتمري، اعتنى بتصحيحه الشيخ بن بن أبي شنب، مطبعة جول كربول، الجزائر، ص 24، وص25، وص37. وقد روي البيت الأخير (عن جنايةٍ) ولعلها أقرب للصواب.
[11]التبريزي: شرح التبريزي على (بانت سعاد) لكعب بن زهير رضي الله عنه، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن يوسف الجمل، مكتبة الآداب، القاهرة، 2003،ص5. وفي روايةٍ: نُبّئتُ أنَّ…
[12]الحطيئة: ديوان الحطيئة (برواية وشرح ابن السكّيت)، دراسة وتبويب: د, مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993، ص ص 107ـ108. وفي رواية: زغب الحواصل..، ألقيتَ كاسبهم..
[13]المصدر نفسه، ص164.
[14]أبو محجن الثقفي: ديوان أبي محجن الثقفي وشرحه، لأبي بلال الحسن بن عبد الله بن سهل، مطبعة الأزهار البارونية، شارع محمد علي، مصر، ص17. هناك أبيات أخرى تذكرها كتب الأدب وهي غير موجودة في هذه النسخة من الديوان، وهي:
وقد شَفّ جسمي أنني كلّ شارقٍ
أعالجُ كبلاً مُصمَتاً قد بَرَانيا
فللّه درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقاً
وتذهلُ عني أُسرتي ورجاليا
حبيساً عن الحرب العَوَان وقد بَدت
وإعمالُ غيري يوم ذاك العواليا
ولِلهِ عهدٌ لا أخيسُ بعهدِه
لئن فُرِجَت أن لا أزور الحوانيا
هَلُمَّ سلاحي لا أبا لكَ إنني
أرى الحربَ لا تزدادُ إِلا تماديا
[15]راجع تتمة القصة في المصدر نفسه ص18، وهي مشهورة موجودة في مصادر كثيرة.
[16]محمد دياب الأتليدي: إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس، تحقيق: محمد أحمد عبد العزيز سالم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004، ص222.
[17]ومن ذلك أيضاً خبر تميم بن جميل الذي كان كثير الخروج على المعتصم في شاطئ الفرات، فأمر المعتصم بقتله، ولكنه عفا عنه لاحقاً، وأقطعه المكان الذي جاء منه، وامر له بخير كثير، وفق ما يرويه صاحب العقد الفريد، ص33، وغيره، بعد أبيات قالها تميم، كما يتضح في الخبر التالي:
“وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره. فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها.
فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الالسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك، وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السّيف والنطع كامنا
يلاحظني من حيثما أتلفّتُ
وأكبر ظنّي أنّك اليوم قاتلي
وأيّ امريء ممّا قضى الله يفلتُ
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة
وسيف المنايا بين عينيه مصلتُ
يعزّ على الأوس بن تغلب موقف
يسلّ عليّ السيف فيه وأسكتُ
وما جزعي من أن أموت وإنّني
لأعلم أنّ الموت شيء موقّتُ
ولكنّ خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتّتُ
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة
أذود الرّدى عنهم وإن متّ موّتوا
فكم قائل لا يبعد الله روحه
وآخر جذلان يسرّ ويشمتُ
قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب، فقد غفرت لك الصبوة، وتركتك للصبّية”.
ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1984، ج2/ ص33.
[18] جميل بثينة:ديوان جميل بثينة، (قدّم له: بطرس البستاني)، دار بيروت، بيروت، 1982، ص29، وثمة رواية أخرى للبيت: “.. في جنب وامق/ غريبٍ مشوقٍ..”.
[19]القصيدة التي مطلعها: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا، وهي موجودة في:
ـ ابن زيدون: ديوان ابن زيدون، دراسة وتهذيب: عبد الله سنده، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2005، ص11.
[20]المصدر نفسه، ص63.
[21]محمود سامي الباردي: ديوان محمود سامي البارودي باشا، حققه وضبطه: علي الجارم ومحمّد شفيق معروف، دار العودة، بيروت، 1998، ص446.
[22]إبراهيم طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة، كلكات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، ص ص89ـ90.
[23]نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ج1/ ص ص697ـ698.
[24]http://www.alnoor.se/article.asp?id=32658
والأبيات من البحر الخفيف، غير أنّا نقلناها بالشكل الذي وردت فيه في النص الأصلي.
[25]قيس بن الملوح: ديوان قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، مصدر سابق، ص64.
[26]نزار قباني: الأعمال السياسية الكاملة، منشورات نزار قباني، بيروت، ج3/ ص647.