أمةٌ أعارت مصباحها للعالم وظلت تائهة

مجد أحمد القادري | سوريا

Alqadery1987@gmail.com

          من يدرسُ تاريخنا العربي وعلومنا وآدابنا سيجد قوةَ تأثيرِ حضارتنا الروحيةِ والفكريةِ والأدبية والفنية في العالمِ.

          ولعلَّ قائلاً ممن انبهروا بالغرب يقول: كلُّ ما قدمهُ العلماءُ عبرَ التاريخ ليسوا عرباً، بل هم من أصولٍ أعجمية! ولذا علينا قطعُ الطريق على هؤلاء ونوضِّحُ من هم العرب؟ هل العرب هم الذين يقول عنهم علماء الأنساب: هم أرومة الجنس السامي الذي تفرعَ منهُ الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون والعبرانيون؟ فإن كانوا كذلكَ، فهذا يعني احتمالية أنَّ بعضَ علماء الغرب وفلاسفتهم من أصولٍ عربية! ولنكن أكثرَ واقعيةً ونقول: إنَّ العربيَّ هو الذي ينتمي إلى منظومةٍ فكريةٍ لغةً وثقافةً، ونتركَ الفخرَ بالعرقِ جانباً.

          من المعروفِ أنَّ الإسلامَ أشرقَ أولاً في بيئةٍ عربية، إذ نزلَ القرآنُ الكريم بلسانٍ عربيٍ مبين، على نبيٍّ عربي الثقافة واللسان، ثمَّ انتشرَ في أصقاعِ العالمِ، وما زال حتى اللحظة الراهنة. وقد يقول بعضنا: انتشرَ بالسيف والغزوات. فأقول: إنَّ هناك فئةً من غيرِ المسلمين نظروا بعين العدل، ودحضوا هذا القولَ وأنصفوا الإسلام، فأشادوا بشخصية النبي محمد (ص)، التي تركت أثراً قوياً في نفوسِهم.

          وذائعٌ مستفيضٌ من المعلوماتِ في الكتبِ المعاصرة التي تحكي ذلك، فهذا الكاتب الأمريكي (مايكل هارت) مؤلفُ (المائة الأعظم تأثيراً في التاريخ) قد جعلَ النبي محمداً أولَ هؤلاء العظامِ، وقال: “إنَّ محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجحَ نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي”، على الرغم من أنه ولدَ في بيئةٍ بدوية متواضعةٍ، ومازالت دعوته متجددة حتى بعد مضي أربعة عشر قرناً على وفاته. أما الأديب الإيرلندي (برناردشو) فقال: “إنَّ من الإنصاف أن يُدعى محمدٌ منقذَ الإنسانية، وأعتقد أنَّ رجلاً مثله لو تولى زعامة العالم الحديث لنجحَ في حلِّ مشكلاته وأحل فيه السعادة والسلام”. وقال عنه الشاعر الفرنسي (لامارتين): “هذا هو النبي محمد، فمن يجد أعظمَ منه إذا ما قيسَ بكل مقاييس العظمةِ الإنسانية؟!”. وهذا غيضٌ من فيضِ تأثيرِ الإسلامِ بقيمهِ الروحية والأخلاقية في العالمِ.

          ولم يقتصر على القيم الروحية فحسب، بل كانَ للعلوم العربية القدحُ الأكبر في التأثيرِ، ومن يدرسُ تاريخنا العلمي، سيجد أنَ علماءنا كانوا السبّاقين في العلمِ والبراعة، بينما كانَ الغربُ يتخبطُ في ظلام العصورِ الوسطى. يقول الباحث (هيليل أوفيك) من جامعة تكساس في أوستن: “إن العلوم العربية كانت الأكثر تقدماً في العالم حتى نحو القرن الثالث عشر الميلادي”، حيثُ ازدهرت تجارة الكتب تأليفاً وترجمةً ونشراً، في الفلسفة والطب والفلك وشتى العلوم، وأنشئت (دار الحكمة) في بغداد فكانت جامعةً للعلماءِ من جميعِ الدول والطوائف والأديان، وبرعَ ما برع من العلماء والمفكرين، كالكندي والفارابي، وابن سينا، وابن النفيس، والرازي، وابن الهيثم، وغيرهم ممن أبدعوا بلغة وثقافة عربية، ووصلَ نتاجهم عن طريق الترجمة عبر الأندلس للعالم الغربي، وقد قيلَ: إن ابن رشد كانت فلسفته العقلية (الأرسطية-الإسلامية) عاملاً قوياً في النهضة الأوربية، إذ انتصرت فلسفته على الكنيسة ورجالاتها، منهم القديس (توما الإكويني)، فاستنارت شعوبهم وقدسوا الإنسان، واعتمدوا على العقل في التفسير وفي الطبِّ، وأُدخِلَت الصيدلية بفضل علمائنا العرب، وأصبحَ التداوي علمياً بعد أن كانَ روحياً على يد رجال الكنيسة، ولابن سينا، العربيِّ ثقافةً وفكراً، فضلٌ كبيرٌ على الطبِّ الغربي حيثُ ظلَّ مؤلفَهُ مرجعاً في الطب لفترةٍ طويلةٍ. يقول (رونلد كامبل) في كتابه (الطب العربي): “لقد بقيت جامعات أوروبا تستند تماماً على إسهامات علماء العرب في الطب، بل إن مقرراتهم في كليات الطب بقيت تستعمل (القانون) لابن سينا و(الحاوي) للرازي وغيرهما حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي”.

          أما على مستوى الأدب والنقد فإنَّ من يتتبع جسور التلاقي بين الآداب العربية والغربية سيجد قوة تأثيرِ الآدابِ العربية، وقد أعجب الغرب بآدابنا ونقادنا أيما إعجاب. يقول المؤرخ والباحث الأمريكي (مارتن كامر): “لو كانت جوائز (نوبل) قبل ألف عام، لذهبت تقريباً حصرياً إلى المسلمين”. والدارس للآداب المقارنة يتحسسُ تشابهَ (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي (دانتي) بمخطوطةِ الإسراء والمعراج، و(رسالة الغفران) للمعري، وكذا المدارس النقدية، كالأسلوبية وتأسيسها على لبناتٍ من مؤلفات شيخ البلاغة (عبد القاهر الجرجاني)، ويا لقوة التشابه بين (نصوصية) الجرجانيِّ و(تفكيكية) جاك ديريدا!

          لقد قدَّمَ العربُ الكثيرَ الكثيرَ وأعاروا مصباحَهم للعالم ليستنيروا بهِ، وظلوا لأسبابٍ في تيهٍ وبحثٍ عن هويتهم إلا من رحم، ولمَّا رأوا إنجازاتِ الغربِ أصبحوا بين من يرثي تراثه ويمجده، وسليبٍ للغربِ يجلدُ أسلافه، ومحبٍّ لتراثه ويستنيرُ من مصابيح الغرب!

          ويبقى السؤال الأهم: ما سببُ تقدمِ الغربِ على العربِ في العلم والصناعة والأدبِ والفنِّ؟

          هل هو سياسة الأنظمة العالمية وهيمنتها على العرب، أو فرضُ الأنظمة العربية سياستَها على شعوبها لتبقى هي المهيمنة؟ أو ارتباط الدين بالسياسة، كما يُقال، أو بعدنا عن الدين والعلمِ؟ هل هو في عدمِ الرجوعِ إلى التراث، أم لأننا لا نمتلكَ ثقافة التجاوز عن التراث، ولا نملكُ حساً نقدياً، كما يمتلكهُ الغربُ الذي تجاوزَ مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة أو…؟!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى