تجاعيد الماء (9)

سوسن صالحة أحمد | شاعرة سورية تقيم في كندا

(إرادة)

لطالما لمحت الحزن في حركتها، ودمعة لا تفارق لحظها
منذ سنين تتمنى حريتها، انكسر شيء في روحها
غير أن الكل بات خائفاً على البيت من الخراب والأولاد من الضياع، فصوتوا دون قصدِ التّصويت، بشكل مُنفرد، وبالإجماع، أنّ عليها التحمل من أجل ذلك.
حتّى هو، رغم أنه الأكثر فهماً لها ولِما تقول، اتفق معهم، دون أي اعتبار للمشاعر في موازين شرعهم، دون التفاتة لتلك الروح المُعذبة المُقيدة بقيودهم.
وهو كزوج، ذكر، لابدّ له من حقوق أخرى يأخذها، فهي في كل الأحوال، أنثى محسوبة الوجود عليه في البيت، ودوما ما عليها واجب آخر.
كان يؤلمها كذبها حين جُرِحَ الحُب بمشكلات كثيرة احتملتها سنيناً طويلة، هي التي زُرِعَ في رأسها صغيرا، أن الصبر هو الفضيلة، حتى لو كان لا نتيجة مرجوة منه، سوى زيادة التعب والألم، حيث بات ما تفعله بطيب خاطرها واجبا عليها في كل حال حد المحاسبة عليه، بما يزيد ألم الصبر، صبراً.
أضحت تتحرك بشكلٍ غريب، تنجز أعمالها بصمت، تدبر أمور منزلها بطريقة عبثية وكأنها مبرمجة، تظهر حيرتها في ما يشغلها ويجعلها منفصلة وموجودة في آنٍ معا، ذاك الوجود الذي يخدمها في حركتها.. تواتر تلك الحركة على مدى عمر في بيتها.
لا مكان تأوي إليه، لا عمل تقتات منه، استغرابها لقبوله بكذبها رغم إخبارها له، ورفضه لأن يعيشا أصدقاء فقط، يؤلمها تواجدها معه، جسدا بلا روح.
اليوم أتتني، قالت: الفضيلة هي الصدق، لن أكذب بعد اليوم، لقد أخبرته مرارا أني ما عدتُ أواطنه، روحي ليست حاضرة معه، كأنه لا يريد فهم ما أقول رغم وعيه به، خراب البيت ليس في الظاهر، بيت كبيتي، خربٌ منذ أُجبِرتُ على البقاء فيه والأساس غير موجود، بلا حب يستغرقنا حتى أدق تفاصيلنا، كيف نحيا؟ كيف تعمر بيوتنا والفضيلة في بواطننا ما عبّر عنها الظاهر يوما؟
أرجوكِ، أوصلي له رسالتي، لا لتوصليها فقط، بل لتعيدي على مسامعه كل ما لم يتفهمه مني، أنا ذاهبةٌ إلى حيث لا أدري، أبلغيه أمنيتي بالخلاص، ثم مضت، تاركةً رسالتها. .
“كلماتٌ تُكتب على بياض فارغ إلا من قزح، لعلها الرسالة الأخيرة، من بعدها لن يكون البياض إلا لذات وجدت ذاتها في كل لون وعلمت منها ما علمت في شفافية ياسمينة تشتهي حركة قطر الندى تلثمها بصدق الشروق كل صباح، بخفة النّسيم تتدحرج على صفحتها، فتنحني لصدق تواجده.
ما استباحها يوما، بل أتاها مُستسلمة لاطمئنانها به، بأن الصدق أوجد التواجد، أوجدهما، وأنه ما أتاها، إلا عشقاً وملاذاً لتقبلها لثم برودته، لا يعنيه من شأنه شأن آخر، سوى تحقق الصدق في كينونة الطُّهر.
كقطعة قماش منسية تحت أشعة الشمس، يأكلها الحر والغُبار، حتّى تحملها فتسقط مُفتتة على الأرض، حالها والموت واحد، صار هكذا قلبي، يا أيها الموغل في قراءة أناه وعزة ذاته، ما قرأت مني صمتي يوما، ويزعجك ضجيجي، حتى خنقني الصمت، ربما أتخذ القرار أخيراً، بعدما استنزفتني في عالم فحولتك، ونسيت أن الصباح، ورد وندى وشمس.
مفردات صمتي، حَسَبَكُم، في قاموس ممنوع البوح، أيهما أشد وطأة على روحي، إيغالك في تحقيق ذاتك فيَّ، أم تلك الآه المحبوسة ما بين أوراق رسمية على رفوف لربما تآكلت بفعل الغُبار، أو باتت طعاما لفئران الدوائر الرسمية؟
هل هي الشاهد على الصدق؟ وهل يحتاج الله هذا الشاهد؟
ترى لو مزقناها. . أي شاهدٍ على ما بيننا؟ إلا ما بيننا.
لا شريعة إلا ما سُطِّرَ في القلب، و وافقه فعل يثبته، والفعل دون شعور إنْ هو إلا كذب يعذب.
تضاريس تدوسها كل ذات أناً منك، وعيون قلبي مُسافرة بعيدًا عن لوحتك التي لا تنتهي، بألوانهم، على قدر إملاءاتهم، بخطوطهم ترسمها.
مقيتة تلك المشاعر الباهتة، حتى لكأنّها مشهد نهر بات يأكله الجفاف، لم يبقَ منه إلا قطرات لفها العفن، وريح نتنة.
لقد اعتصرت قلبي حدّ الصراخ في بوح ما اعتقدتُني يوما أستطيعه، لكن الألم أقدر على إخراج القذى، وليكن بوحي في الممنوع، صرخة في وجه الممنوع”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى