قراءة اثنوغرافية :علماء الأنثروبولوجيا ونظرتهم لما قبل الدولة وما بعدها

بقلم : عماد خالد رحمة 

    لم يتوقف علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع عن إصدار الكتب الهامة التي تتحدث عن مجتمعات ما قبل الدولة . مستخدمين علم الأثنوغرافيا وتكيفاتها المنهجية حيث يتم الاهتمام بفهم كيف يمكن للإثنوغرافيا أن تواجه أنظمة  الأبستيمولوجيا (المعرفة) السائدة حول الدول العربية وبنية مجتمعاتها، وأن تنتج فهماً إثنوغرافياً أغنى وأكثر دقّةً وتعبيراً عن واقع لمنطقتنا العربية اليوم. حيث يقترح هؤلاء العلماء أنماط انتباه معيّنة أساسية للبحث الإثنوغرافي، بما فيها الانتباه إلى الخوف والذاكرة والصوت والأحلام والأكاذيب والحركة والطابع الانغماسي للعنف.فقد كان عالِم الإثنيات والأنثروبولوجي  الفرنسي بيير كلاستر(17 مايو 1934-29 يوليو 1977) الذي عُرِف بإسهاماته في مجال الأنثروبولوجيا السياسية من أهم ما كتبَ عن فترة وجود قبائل ما بين بدائية ، ورصد بنية العلاقات والأعراف السائدة فيها، لكن المجتمعات  التي عاشت ما بعد الدولة نادراً ما كُتِبَ عنها باستثناء اليوتوبيات التي تخيّلها الحالمون بدولة البروليتاريا، وهي الطبقة التي ستتولَّد بعد تحوُّل اقتصاد العالم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري،إنَّ ما نعنيه  هنا بما قبل الدولة، يأتي في سياق مضاد لما يُطلق عليه المابعديات، سواء تعلَّق الأمر بالدولة أو الثقافة أو الحداثة ، وقد يستغرب البعض أن بيان موت الحداثة، كما يقول ماكفرلين، صدر في العاصمة الألمانية برلين في أوائل القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1815، بحيث يصبح كل ما أعقب ذلك التاريخ ضمن ما بعد الحداثة، وقد يكون هذا مجرد اجتهاد يقبل المناقشة والمحاكمة العقلية ، لأنَّ الحداثة ليست مناخاً أو حالةً واحدةً متساوقةً ومتجانسةً في العالم كلَّه ،وفي مختلف لغاته وثقافاته المتنوعة ، لهذا كان الفيلسوف وعالم الاجتماع والمخطط الحضري هنري لوفيفر  يصرُّ على أن يضيف إلى كلمة الحداثة ما يحدِّد الثقافة التي يتحدث عنها، فيردِّد  كلمة حداثتنا ، وفي هذا التحديد يكمن مفهوم جغرفة الثقافة ، ورسم تضاريس لها ،وقد يكون العالم العربي من أكثر الشعوب حاجةً إلى دراساتٍ حول ما بعد الدولة، بعد أن شهد تفكيك  العديد من الدول بشكل ميداني وعملي بعد العام 2010، بحيث تُعاد المجتمعات الى ما قبل القانون وما قبل التشريعات والتمدن، خصوصا عندما اختلط حابل النظام بنابل الدولة وتصوَّر الكثيرون أنهما دائرتان متطابقتان ، ولهما مركز واحد. ويتفق معظم علماء السياسة على أنَّ مفهوم الدولة أوسع بكثير من مفهوم النظام السياسي، فالدولة هي ذلك الكيان  الكبير الذي ينبثق إلى حيز الوجود من اجتماع عناصر الأفراد والإقليم والنظام السياسي. أما النظام السياسي فهو ذلك المكون من مكونات الدولة الذي يعبِّر بقوةٍ عن السلطة الإلزامية التي تحدِّد لوائح السلوك الاجتماعي بكل المقاييس ، وتشمل الهيئات المختلفة التي تندمج في كيانٍ واحد للنهوض بأهداف المجتمع السياسية والثقافية والدينية والاقتصادية ، والتي تتمتع في الوقت نفسه بوضع قانوني خاص متميِّز عن سائر التنظيمات والهيئات الأخرى .

    إنَّ النماذج لما نسميه ما بعد الدولة لم تعد محض خيال،  بل حقيقة واقعة، وما نشاهده ونسمعه من الميديا  بكل تشكيلاتها ووسائلها وما تبثه بكل اللغات وعلى مدار الساعة عما يحدث في أكثر من بلد عربي يجزم بأنَّ الدولة  ككيان لم تكن قد استكملت نصابها التاريخي واستحقاقها  بعد ،  فهي ليست مجرد اقنوم ثالث بعد الأرض والشعب ، تبعا للتعريف الكلاسيكي، إنَّها أكثر من ذلك، فالدولة هي تجمع سياسي يؤسِّس كياناً ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدَّد ، ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، وبالتالي فإن العناصر الأساسية لأيِّ دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، بالإضافة إلى السيادة والاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكِّنها من ممارسة اختصاصات السيادة ، لاسيما الخارجية وهي كمنجز تاريخي وحضاري ، لا ينفع معها حرق المراحل تماماً ، كالديموقراطية التي ترتبط عضوياً وجذرياً بأنماط إنتاج وموروث ثقافي ،وتراكم خبرات في مجال العقد الاجتماعي. وفي مجال الأنثروبولوجيا السياسية والاقتصادية،ربما كان لمرحلة ما قبل  ظهور الدولة ضوابط وايقاعات اجتماعية ناظمة بديلة للقوانين، وكذلك  مسارات وسياقات تلائم المرحلة التي عاشت فيها، لكنَّ مرحلة ما بعد الدولة ليست كذلك، ولا يمكن للشعب في ذروة الفوضى والضياع  والانفلات،وعدم التوازن،  أن يستدعوا ذلك الاحتياطي الذي انقطعوا عنه منذ قرون طويلة .لهذا فإنَّ ما بعد الدولة هو المرادف  العملي والحقيقي لكلّ شيء له صلة بالتمدن والتحضُّر والتمثيل الأسمى للإنسانية ، فهل غلب الطبع التطبُّع كما قال عالم الاجتماع العربي الكبير ابن خلدون ؟ أم أنَّ مفهوم الدولة باللغة العربية هو من الدول الذي يعني الزوال؟ بهذا  المسار وهذا المقياس هناك  عدد ليس قليلاً من المفكرين والفلاسفة المعاصرين من قال إنَّ العولمة لم تظهر بعد سقوط سور برلين، أو في نهايات الحرب الباردة في القرن العشرين بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية ، بل تعود إلى عام 1492 وهو عام سقوط غرناطة في الأندلس، بحيث يكون عمرها قد تجاوز الخمسة قرون، وسيبقى الأفق مفتوحاً بشكلٍ واسعٍ ومتاحاً لمثل هذه الاجتهادات، تبعاً للرؤى والمناهج والمقاربات الأبستيمولوجية ( المعرفية) ، بخاصة إذا تم استخدام مصطلح الثقافة كمرادف للحضارة، كما قال الشاعر توماس ستيرنز إليوت ت. س. إليوت،الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي الحائزٌ على جائزة نوبل،وقد يكون كتاب الأنثروبولوجست لعالِم الإثنيات والأنثروبولوجي  الفرنسي بيير كلاستر عن مجتمعات ما قبل الدولة، من أدق المراجع في هذا المجال، لأنَّه أقام زمنا بين قبائل بدائية ، ورصد على نحو ميداني  وعملي نمط الإنتاج  الاقتصادي ،وما يفرزه من تقاليد وعادات ومنظومات قيم في تلك المجتمعات، خصوصاً في فصل من كتاب الأنثروبولوجست بعنوان : ( السلة والقوس) ، فالقوس يرمز إلى الذكورة والسلة ترمز إلى الأنوثة ، ما دام هناك من يقطف الثمار مقابل من يراكمها في السلال. وفي مجتمع ما قبل الدولة، يكون النفوذ والسلطة لمصدر الكلام، وليس للكلام بحدِّ ذاته، ويتجسد ذلك في كل ما يصدر عن زعيم الجماعة أو زعيم القبيلة أو العشيرة ، في نظام شبه عسكري أو إسبارطي يعتبر الخارج عنه مارقاً ويجب معاقبته ، ومن أهم ما رصده الأنثروبولوجي  الفرنسي بيير كلاستر ما يسميه تحريم النجاح على من يحققه من خلال الصيد، فمن يصطاد حيواناً أو طائراً يحرم من حصته منه، ومن هنا نشأ الاغتراب الذي عبّر عنه صيادو القبيلة، ومعظمهم من الشبان، بابتكار لغة بديلة للغة السائدة وكأنهم يستردّون نجاحهم المسروق بشكلٍ رمزي على الأقل.ما قبل الثقافة بمعناها الدقيق كان السائد ،وما يجب الاحتكام إليه هو الأعراف والتقاليد والشرائع الناظمة  المتوارثة عبر الأجيال من جيلٍ إلى جيل شفاهةً، والحقائق ليست نسبية بحيث يدَّعي امتلاكها كلُّ من يشاء تبعاً لمنسوب وعيه  وثقافته وإدراكه ومنظومة تفكيره ، لهذا فالزعيم معصومٌ عن الخطأ ، وما من سبيل لنقض  ورفض ما يصدر عنه من أحكام وقوانين، لأنَّ  قيمة ما يقوله مستمدة فقط من توقيعه ومكانته وسطوته وما يملك من قوة ومال، ولأنَّ الكلام سبق الكتابة تاريخياً ، فهو الوليد البكر لثقافة ما قبل الدولة ،أو الثقافة الشفوية،ويتساوق هذا مع أسلوب  ونمط الإنتاج السائد في المجتمعات البدائية، وهو غالباً يكون بالصيد وجمع الطرائد ،  وفيما بعد  بدأ في مرحلة الرعي ، لهذا تقاطعت طروحات الأنثروبولوجي  الفرنسي بييركلاستر مع عالم الأنثروبولوجيا  البولندي برونيسلاف كاسبر مالينوفسكي (7 نيسان 1884- 16 أيار 1942)، ويُعدُّ من أهم علماء الإنسان ( الأنثروبولوجيا)  في القرن العشرين. على  الرغم من التباين والتفارق  المنهجي والأيديولوجي خصوصًا عندما كتب عن اكتشاف البرونز لأول مرة في التاريخ، والذي سمي ذلك العصر بعصر البرونز ، الذي ظهر في الشرق الأدنى حوالي 3000 قبل الميلاد وحتى سنة 1200 قبل الميلاد ووصلت إلى أوروبا بين سنة 2500 و 2000 قبل الميلاد وظهر العصر البرونزي في أوروبا الغربية بين سنة 1800 قبل الميلاد وسنة 900 قبل الميلاد. وينتهي بعد ذلك إلى ما يسميه العلاقة بين البرونز، وهزيمة المرأة الكبرى في التاريخ، حيث ظهرت بواكير البطرياركية أو المجتمع الأبوي الذكوري ،لأنَّ السلاح الجديد جرّد المرأة من سلاحها الرمزي الأسطوري بعد أن كانت ربّة مثل الربة عشتار وآلهة الخصب وآلهة الينبوع . ما قبل الدولة لا توجد  قوانين أو شرائع  ناظمة يخضع لها أفراد  الجماعات البشرية جميعاً بلا استثناءات ،ما دام هناك من يحق له ما لا يحق لسواه، بسبب المكانة الموروثة أو احتكار القوة وأدواتها والمال والسطوة والجاه ،لهذا لا يمكن أن تنشأ الدراما التي هي النواة الحقيقية لكافة الفنون التي عرفتها شعوب الحضارات القديمة، بمختلف تعريفاتها بدءاً من الصراعات والنزاعات في مجتمعات بدائية،تلك المجتمعات تمتاز بالسائد والمقرَّر فيها هو الامتثال دون تردَّد ، الذي عبّر عنه شاعر عربي ينتمي إلى قبيلة اسمها غزيّة، وهي من مجاميع كبيرة متعددة من فلول بطون حِمْيَر و طيء و من قاربهما من القبائل القحطانية القديمة التي نزحت من بلاد قحطان، والتي تقع بين واديا رنية و بيشة من حول السروات و الحجاز. وتمتد مواقع غزية من بر جنوب الفرات من هيت و حتى حرَّة النار قبل المدينة المنورة .فقد قال الشاعر العربي  دريد ابن الصمة إنه مجرد صدى لها، سواء تعلق الأمر بالغزو أو الرُّشد. فقد قال بضع أبيات يرثي فيها أخاه عبد الله، تبين عن تقاليد عربية ممدوح شرعا والآخر ممنوع:

وما أنا إلَّا من غزيةٍ إن غوت …….. غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

 والفرد في مجتمعات ما قبل الدولة هو فردٌ مجرد رقم أصم، كل ما يستطيع القيام به هو أن يطيع وفقط ، ولا معنى حتى للأسماء إلا بقدر ما تفرّق بين فرد وآخر في القطيع، لهذا هناك قبائل ترسم بالنار شارة معينة لكل أفرادها تنوب عن أسمائهم وانتسابهم ،  لذا فالوشم هو الهوية  التي تعبِّر عن انتماء الفرد إلى القبيلة ( القطيع ) ، وما يحدث على هذا الصعيد العضوي له ما يرادفه ثقافياً، فالفرد المختلف والمخالف والرافض ليس سوى ، بعير أجرب أو عنزة سوداء في القطيع، عليه أن يقبل  الحساب والعقاب بالإفراد والنبذ والتهميش ، خشية من عدوى الاختلاف والرفض والتمرد التي قد تتسلل إلى أفراد القبيلة الآخرين.

وخير مثال عربي معاصر على ثقافة ما قبل الدولة، ما نشهده من  مهرجانات إعلامية تتسم بالبهرجات والخطابات الرنانة الفارغة الخادعة  ذات الأقنعة الثقافية، التي غالباً ما تستخدم كشكل من أشكال الزكاة المحرّمة لغسل الاستبداد  والقمع والظلم الذي يُمارس على الناس كما تغسل الأموال. وفي مناخات  مشحونة ملوثة مثل هذه الثقافة سرعان ما يعود المثقف بالمعنى المجازي إلى صورته الأولى إلى نشأته البدائية ، ويرى أن أي رأي سلبي  أو مخالف موقف أو رأي دولته وحاكميه يُقال عن دولته أو بلاده ينبغي التصدي له بكل ما يملك من أدوات الرفض والقمع على الفور ، وبغير ذلك يتعرض للتخوين والتجريم والنبذ والتهميش ،بل يمكن أن يتعرَّض إلى السجن ، وما كان لمثقفين من طراز الشاعر والروائي  الفرنسي الشهير جان جينيه، أو الناقد والمؤرخ والناشط السياسي وعالم المنطق الأمريكي  أفرام نعوم تُشُومِسْكِي أستاذ علم اللسانيات . والفيلسوف والروائي والكاتب  المسرحي والناقد الفرنسي  جان بول سارتر ، والروائي والرسام الأمريكي هنري ميلر  وغيرهم كثير أن يبقوا على قيد الحرية والحياة وأن يستمروا في العطاء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى