رمضان في طفولتي

عبد الغني المخلافي | اليمن

عشر سنوات، لم أشهد تحت سماء الوطن شهر رمضان . وكلما حل ، أسترجعت شريط ذكريات طفولتي فيه ،وكيف كان الأهالي بابتهاج يستقبلونه وهم يرددون الأناشيد الرمضانية ؟

تلك الحقبة البدائية، إذا ما قارناها بأيامنا الحالية ، وما أستحدث فيها من وسائل عصرية ، في إعداد الطعام والترفيه.سنجدها بمظاهرها ووسائلها جميلة – الفوانيس والتي حلت محلها الكهرباء

 ـ الحطب الذي حل محله الغاز – استبدال سماع الحكايات والنوادر بالجلوس إلى مواد البث التلفزيوني ، ولا أنكر ما وصلنا إليه اليوم ،من وسائل حديثة ،في العيش والترفيه ، والنقلة النوعية في جميع  مناحي الحياة.

أتذكر صعودنا جبل القرية عصر  كل يوم، بطلب من الأمهات، لإحضار ذلك العشب الذي يُسحق مع الفلفل على(المرها)ويخلط في أكلة ( الشفوت)المتوحد أهل اليمن عليها في مثل هذا الشهر .. منشدين : ’’يا رمضان يا صوفي .. حول لي بمصروفي’’ الصائم صائم لربه ..والفاطر قلعوا قلبه’’ رمضان يا أبو الحماحم.. أعطي لنا قرعة دراهم’’. وكل واحد منا يحرص كل الحرص  على جلب ،كم كبير ،من ذلك العشب الجبلي والذي نسميه (الخوعة) وبعد إنجاز المهمة ، نعود نستريح على سطح صخرة رابضة في بطن جبل القرية  ، مُرسلين أنظارنا نحو اسطح البيوت ، في الأسفل تكون الأمهات قد بدأنَ بتجهيز العشاء بإشعال المواقد .تعلن الأدخنة المتصاعدة عن إعداد وجبة الإفطار . وتكون وجبة ’’ الشفوت’’ أهم الوجبات

 التي تقدم مع التمر و القهوة .وعندما نلمح جنوح  الشمس إلى المغيب من مكاننا ، يكون علينا العودة سريعاً ،حتى يُسمح لأمهاتنا ، سحق ذلك العشب ،ووضعه في وجبة ’’الشفوت’’ ، وتوزيع للجيران ما زاد منه ..

إلى المسجد  يذهب الآباء . و كل واحد  منهم يحضر شيئاً من الطعام  ..

وكان حينها وضعي يختلف عن وضع بقية الأقران ،حيث وأنا أعيش عند جدي لأمي  بعد انفصال والديّ مع أخي ..

جدي إمام مسجد القرية و فقيهها ، تخرج على يده الكثير من حفظة القرآن.. يغادر  منزله إلى المسجد  لصلاة الضحى، ويمكث حتى صلاة المغرب ..

يتجمع جيران المسجد بساعات  قبل غروب الشمس ، و يمضون وقتهم  في قراءة القرآن، و تبادل الأحاديث المفيدة، متجنبين الخوض في أي حديث قد يجرح الصوم ..أذكر كيف كان جدي يُقرَّع من  يقع منهم بالمحظور . و أنا أقضي وقتي  حول المسجد بالركض مع أخي الصغير ..لا أستجيب عندما تطلب  جدتي توقفي عن اللعب  والمكوث مع الحاضرين ، لانتظار ساعة الإفطار .

وكانت تسبق لحظات الإفطار أجواء جميلة ،ناهيك عن ليل رمضان ، وكيف نجتمع نحن أحفاد جدي ،من عياله ،وبناته ،بعد وجبة العشاء . في تلك ” الدكة” أمام باب منزله ،وهو يرتشف الشاي الذي يحبه بالحليب و بعد كل رشفة من فنجانه يردد: ما شاء الله ،تبارك الله . ويده لا تفارق مسبحته و شفتاه لا تكف عن قراءة الأوراد و الاستغفار ..

جدتي والتي كانت بمثابة التلفاز ، هي ونساء من سنها، يسردن علينا قصص وحكايات، تثري العقل وتوسع الخيال.. أذكر كم كنت شغوفاً بسماع القصص والحكايات التي أحببت بعدها الأدب بألوانه و مكتبة جدي ، التي كانت تحتوي على عدد هائل من الكتب الدينية ،والسير الشعبية، مثل ’’عنترة بن شداد- الزير سالم – المياسة والمقداد – سيف بن ذي يزن،، و كتب متنوعة . قرأت الكثير منها  ،في سن مبكرة . مما أفادني . ووسع من مداركي. ناهيك عن حفظي لقصائد  المديح والأناشيد الإسلامية..

تزخر ليالي رمضان بالسمر والابتهاج . وأنا أجاهد نفسي ، على السهر، والتنقل بين بيوت الجيران و الاقارب مع الأتراب .

في السحر يعلو صوت جدي بالابتهال  والدعاء ، حتى يَسمع كل من في الجوار ..و أنا أحرص بجهد  على الاستيقاظ لتناول وجبة السحور والصوم حتى نهاية  اليوم وأحياناً إلى الظهيرة .  تمنعني بشدة وتعْتب عليَّ  جدتي ، ناصحة : الصوم لا يصلح وأنت في  مثل هذه السن. إلا أنني على الصوم أصر حتى أثبت بأنني لست أقل من الجميع ..

وكثيراَ ما كان رمضان يتزامن مع فصل الصيف ، الذي يكثر فيه نزول الأمطار ، .فلكم سبق  نزول المطر وقت الإفطار  ،وتعذرت العودة علينا إلى المنازل ، ونحن من نسكن الأماكن المرتفعة ..لسنوات طويلة و الوطن يعيش رخاء في العيش ووفرة في الأرزاق ..لا أحد يشتهي ذهاب رمضان ..و أسمع الكثير ممن يتمنون لو أن رمضان شهرين ،خلافا عن اليوم ، رغم الوسائل الحديثة التي دخلت على الحياة ،إلا أن ثمة أشياء أصيلة اضمحلت . كتكافل الناس  وتقارب القلوب  ..

وما لحق الوطن من أوضاع اقتصادية صعبة . أفسد على الناس عيشهم  ..

شكلتني تلك المراحل من عمري ، بثقافات عديدة و أثرتني بخصائص و ذكريات ،لا استطيع حصرها أو إيجازها إذا ما عدتُ إليها وأنا خارج الوطن.

2010عام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى