مسألة التجنيس وتجليات الإمتاع
ثنائية عبد القادر برطويس "طيور تُبعث من رماد"و"بوابة الغياب والإياب"
إدريس الحسناوي |الرشيدية (امدغرة لقصيبة) أستاذ تعليم ثانوي تأهيلي بثانوية الحسن الثاني تنجداد
“طيور تُبعث من رماد” و”بوابة الغياب والإياب” منجزان سرديان للكاتب عبد القادر برطويس، صدر أولهما سنة 2021، وثانيهما في نونبر من سنة 2022.واعتبر الكاتب- من خلال ماورد على ظهري غلافيهما- المنجزين ثنائية روائية متكاملة. إلا أن قارئها المتمعن، يقف حائرا مرتابا أمام هذا التجنيس، فالثنائية تتضمن بين تلابيبها وبشكل مكثف ذكريات ومذكرات وسيرةً ذاتية لبطلين تجمع بينهما قواسم مشتركة ممتدة، وما يعضد هذه الملاحظة، هو إيراد الكاتب لأسماء أماكن وأحداث حقيقية ذات علاقة بمسقط رأسه، وبأماكن أخرى (الصحراء المغربية، الدار البيضاء، مكناس، قصر السوق/ الرشيدية سابقا…).وهذا ما يدفع الباحث إلى طرق مسألة تجنيس هذا المنجز، وخاصة أنه مشابه لكتابات مغربية أخرى، مثل “دليل العنفوان” لعبد القادر الشاوي، و”مثل صيف لن يتكرر” لمحمد برادة و”نعم…ولكن…” لأمينة بحيرة،المنجزات التي أثير حولها سؤال التجنيس.هل تصنف في إطار الرواية؟ أو في إطار جنس آخر قريب منها، مايزال قيد التشكل والاستواء؟.
لقد انبرت عدة أقلام نقدية لمواكبة هذا النمط من الكتابة الذي يضفي صبغة السيرذاتي على ماهو روائي، أو يضفي صبغة الروائى على ماهو سيرذاتي، مع ترجيح كفة أحدهما على الآخر أحيانا. هذا النمط الذي تتماهى شخصياته مع شخصيات واقعية، وهذا ما يلحظه قارئ ثنائية عبد القادر برطويس، حيث حركت أحداثها شخصيات واقعية (إدريس، وهاب، جميلة، وداد، مدير إقليمي راحل بنيابة الرشيدية آنذاك…)، ولو حاول الكاتب إخفاء ذلك، بإلباسه الشخصيات تلك، أسماء أخرى من صنيع خياله، وقد وفق في ذلك التجسير بين المتخيل والواقعي بواسطة استحضاره للأبعاد الرمزية والدلالية لأسماء شخصياته.
لقد شُرع البحث في إشكالية تجنيس مثل هذا النمط من الكتابة لدى الغربيين، وعلى رأسهم جاك و إيليان لوكارم في كتابهما.. (التخييل الذاتي). حيث اعتبرا التخييل الذاتي نوعين، نوع يكون أميل إلى المذكرات والكتابة الانطباعية العفوية التي تعكس المرجع عكسا حرفيا جافا لا إمتاع فيه. ونوع يمزج الحياة الحقيقية بالمتخيل، فلا المسرود يكون حقيقيا حقيقة صرفة، كما هو الشأن في السيرة الذاتية، ولايكون خياليا خيالا صرفا كما هو الشأن في الرواية. وبناءً على ماسبق، فالمنجز السردي للكاتب برطويس، يمكن إدراجه في إطار التخييل الذاتي، وهي الكتابة التي تتراوح بين السيرة الذاتية والرواية. ومازالت الأسس النظرية لهذا النمط من الكتابة غامضة، بل ومختلفة بين مؤيد ومعارض. ويعتبر محمد برادة أول الكتاب المغاربة الذين أثاروا هذا المفهوم، وذلك في حفل توقيعه لـ” مثل صيف لن يتكرر”، وفي سياق توقيعه لعمل عبد القادر الشاوي”دليل العنفوان”.
إن عبد القادر برطويس كان في ثنائيته السردية هذه، كاتبا وشخصية وساردا لسيرتي بطلين تجمع بينهما علاقة الأبوة (إدريس وعبد الوهاب)، وذلك بأسلوب ولغة يأسران القارئ ويشدانه شدا، وبعزف على وتر المشترك لدى فئة همشتها السيرة الذاتية المُعلية من شأن (العظماء). وسننتقي من تجليات الإمتاع في المنجز بعض النتف والتجليات، والتي تمثلت في:
-اللغة
رغم بعض الهفوات (الطباعية)، والتي يُرجى من الكاتب تصويبها وتدقيقها في الطبعة الثانية، فالمنجز تُقيمه لغة رصينة منتقاة، تذكر القارئ بلغة المنفلوطي والرافعي: “فعرف القبيلة يقضي بأن تنتقل المشيخة إرثا من أب لابنه، كابرا عن كابر. كان المختار على صرامته لين العريكة طيبا،يُقري الوافد..مما وسع أطيانه وأغرز ماشيته وحاشيته، فأصبح مهاب الجانب والجوار…” ص18 الجزء 1
-الوصف
إن أجود الوصف في نظر أبي هلال العسكري هو، ما يستوعب أكثر معاني الموصوف، حتى كأنه يصور لك الموصوف، فتراه نصب عينيك .وقد ميزت هذه الخصيصة معظم موضوعات الوصف، مجردة كانت أومادية. فها هو يصف إحدى الثكنات العسكرية كاتبا: “الثكنة عبارة عن خيام عسكرية متناثرة، بها بعض البيوت الطينية، معلق على إحداها علم المملكة الأحمر ذو النجمة الخماسية الخضراء،وحرس وقوف فوق مصطبات عالية ملتصقة بسلالم تمكن العسس من مراقبة التخوم البعيدة بسهولة” ص 51/ ج 1
الاحتفاء بالعادات والتقاليد بالشرق المغربي
وهي عادات تتقاطع بشكل كبير مع عادات الجنوب الشرقي وجزائر مغربية أخرى، فهاهو يقف محتفيا بعرس من الأعراس كاتبا: “حفل زفاف بسيط، انتقلت بعده رابحة إلى خيمتها راكبة بغلا يسوقه زوجها برفقة بعض النسوة من البلدة ووالدتها، فقد كان من عادة الرجال ألا يرافقوا العروس عندما تزف إلى عريسها، فذلك يعتبر عيبا في عرفهم…” ص 14
الاحتفاء بالنوستالجيا
وهي نوستالجيا متصالحة، تغيا عبرها الكاتب تحسين حالته النفسية والحالة النفسية للقارئ الذي يقاسمه المشترك ذاته، عبر استحضار أحداث ووقائع بنوع من الحنين والشوق:”عند الكانون العبق برائحة المرق واللحم والأواني التي ترك تنظيفها حتى الصباح. التف أفراد الأسرة حول ابنهم إدريس، وقد أجلس أخويه من أمه على ركبتيه…” ص 61 /ج 1
الاحتفاء بالقيم
وتمثلت في علاقات نُسجت بين الإخوان والأزواج و الأبناء. “إذن فالأسرة الصغيرة قد زاد عدد أفرادها ثلاثة، لذلك، فأول قدر مالي سيتقاضاه سوف يشتري به لأمه إزارا، ولأخته صندلا، ولأخويه الصغيرين اللذين لم يرهما بعد، واللذين ما يزالان في المهد دثارا، وقد يشتري لزوج أمه عمامة صفراء…” ص 41/ ج 1
تكريم المرأة وتقديرها
وتبين ذلك انطلاقا من العلاقة بين الأزواج (إدريس/جميلة – وهاب /وداد)، فها هو إدريس يعتذر لزوجته بعد سوء تفاهم بينها، بسب الذود عن المحافظة، وتجنب الانسياق وراء سلوكات أنجبتها المدينة/الغول: “خفض عينيه، بعد أن استلم الإناء منها، اعترف بينه وبين نفس أنه اقترف ذنبا حيال هذه المخلوقة التي تخدمه…أخذ بوجهها الصغير بين يديه، واعتذر بحنان غير مسبوق…” ص 121/ ج 1
الاحتفاء بالمقاومة والذود عن الشرف
وتمثلت في عدة سياقات بالمنجز، سواء أتعلق الأمر بمواقف إدريس أومواقف أبناء القرية، مسقط رأسه.
البوح بالمسكوت عنه
إذ فضح الكاتب، وبإيعاز من السارد (إدريس/ الأب) ما سكتت عنه الجهات الرسمية آنذاك، في سياق ظروف وحيثيات إطلاق سراح الدفعات الأولى من الجنود المغاربة المعتقلين لدى المرتزقة، وعلى أراض جزائرية ومورتانية: “كانت المفاجأة الأولى أن رفضا أبناء جلدتنا، من قائل: لِمَ سلموا أنفسهم…هم خونة إذن….ص 120/ ج2 “حينما أقبلت كتيبة السجن المؤبد لتعلن لنا في شخص أحد زبانية البوليساريو عن رفض بلادنا لاستقبالنا.. وقاموا بترحيلنا إلى منطقة تسمى (الكلفة)..ست سنوات أخرى (انضافت) في طيات الصحاري.. توفي خلال تلك المدة عشرون شخصا…المفروض أنهم قد أطلق سراحهم.بعدها- وحسب ماقيل لنا- أنه وبوساطة من الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، قبلت السلطات المغربية بتسلمنا..) ص 122/ج2 (*)
البطل في المنجز السردي
إن البطل في العمل السردي لعبد القادر برطويس بطلان، الأول كان أبا للثاني،وضاهاه في عدة تجليات، نلخص أهمها في الجدول الآتي :
عبد الوهاب
-وُهب زوجة مثل جميلة ( وداد)
-كادت أسس أسرته أن تتهاوى بسبب الإدمان والرفقة السيئة
-عبد الوهاب أيضا
-قاوم المرض (سرطان المعي الدقيق)، وتفاءل طهورا
-كان إيجابيا معطاء في عمله (التعليم)، ومع أفراد أسرته
إدريس
-وُهِب زوجة مناضلة معينة على تحما أعباء الحياة(جميلة)
-كادت أسس أسرته أن تتهاوى (مؤامرة مكناس)
-سُرِقت أولى أجراته
-قاوم آلام الاعتقال والبعاد عن الوطن والأهل
-كان إيجابيا معطاءً خلف القضبان (العمل داخل إحدى الضيعات،وتوفير بعض المال وهو رهن الاعتقال).
تركيبا وتنضيدا لما سبق، فالمنجز السردي لعبد القادر برطويس منجز متح من الواقع ومن أحداث واقعية بانتقائية إيجابية، فرضتها طبيعة العمل، حيث أنزل السيرة الذاتية من قصرها الملكي، حتى لاتكون حكرا على “العظماء”، واستثمرها للتعريف بالمهمشين والمنسيين. ودَرى كيف يقيم الهوة الضرورية بين الواقع/ المرجع، وبين مستلزمات التخييل والإمتاع.
المراجع
-1Jacques Lecarme / L’autofiction .Masson / Paris
2-المنجز السردي للكاتب
* في جلسة ماتعة مع أحد رفاق البطل، الذي قاسمه آلام وسنوات الاعتقال،أوضح لي هذا الأخير أن سبب الرفض مرده إلى أن المغرب امتنع عن تسلم أولئك المعتقلين من البوليساريو مباشرة، لأن هذا الفعل – إن تم – فهو اعتراف بأنها كيان قائم.