لماذا علَّم الله آدم الأسماء كلها؟

فراس حج محمد | فلسطين

تحتاج الإجابة على هذا السؤال شيئا آخر غير الذي قاله المفسرون، لأن المفسرين كانوا يبحثون عن معنى آخر مختلف، معنى دينيّ معرفي اجتماعي، فرأوا في آدم فضيلة العلم والتعلم والمعرفة والاستعداد الفطري لكل ذلك، وربما احتاجها اللغويون ليناقشوا اللغة وأصلها وأنها توقيفية أو توفيقية، وأشعلوا ذلك الجدل الذي لم يوقفه رأي ابن جنيّ واستمر إلى الآن وسيستمرّ، ولم يتعدوا ذلك الجدل إلى ما هو أبعد منه ليروا ما بعدَ بعدِ النصّ. ولكن الأهم هنا في هذه الآية هو السؤال الآتي: لماذا علم الله آدم الأسماء ولم يعلمه الأفعال أو الحروف؟ ولماذا لم يعلّمه اللغة كنظام تركيبي، وإنما فقط كانت الأسماء هي المُتعلَّمة؟

توحي الآية إلى معنى كبير وعظيم أبعد من كل هذا، على الرغم من أهمية ما قاله المفسرون واللغويون. شيء يتعلق بدلالة الاسم وأهميته في واقع العلم والحياة، وإن لم يكن للاسم هذه الأهمية لم يعطه الله هذا الاهتمام في أول استعداد آدم لحياته اللغوية التي سيترتب عليها كل مظاهر الحياة الأخرى، الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية.

في واقع الحال، إن المتأمل في الحياة، ومظاهرها البدائية تحديدا لم يكن يحتاج الإنسان فيها إلا لمعرفة الأسماء فتواصله مع الأشياء وخاصة المحسوسة منها كان يحتّم عليه أن يعرف أسماءها، ولذلك يمكن للإنسان أن يتأمّل كيف أن لله تسعًا وتسعين اسما مثلا، وللنبيّ محمد، صلى الله عليه وسلم، عدة أسماء، وللقرآن الكريم، وسوره، وبعض آياته، وللجنة ولجهنم كذلك، وصار لكل شيء اسم، الشخص والمدينة والكتاب، وأي شيء لا بد له من اسم، حتى أحقر الأشياء وأهونها.

والتفتت بعض البحوث إلى مناقشة “أسماء السور في القرآن الكريم”، كما فعلت الباحثة الجزائرية سليمة جلال، إذ ناقشت الموضوع بمقارنة لسانية سيميائية، وتوصلت إلى أن “دراسة السور كعلامات تختفي وراءها دلالات عميقة تكشف عن البنية العميقة للنص القرآني”، وليس هذا وحسب بل إنها رأت “كأنما اسم السورة صار رمزا مجسدا للمعاني التي أراد النص أن يقولها”.

إن إيجاد اسم للشيء هو إعلان لوجوده وتحقق كينونته، فلا شيء بدون اسم مهما كان هذا الشيء، وإذا مات الشيء أو انعدم، انعدم الاسم معه ومات تلقائيا، فقد تلبّس الاسم بالشيء وصار الاسم والمسمى واحدا، وربّما لأجل هذه الحقيقة تلجأ الحكومات أحيانا لإعطاء السجناء، وخاصّة السياسيين منهم، أرقاما لتحلّ محلّ أسمائهم، إمعانا في تشويه حقيقتهم الإنسانية وتهميشهم أو تلجأ لتغيير تلك الأسماء وإعطائهم أسماء وهمية، لتزيد في سلبهم كيانيتهم المحاصرة ابتداء داخل أسوار المعتقل، أو كما تفعل بعض المشافي في إعطاء المرضى أرقاما، كما عبّر عن ذلك غسان كنفاني في قصة “موت سرير رقم 12″، وتجربة “محمد علي أكبر” المحزنة مع اسمه الذي كان يصرّ على أن تناديه به الممرضة كاملا غير منقوص، “فكان يعتبر أن امتلاك اسمه الكامل هو إصراره على أن يمتلك شيئا ما”. وأوجدت إسرائيل، بوصفها كيانا محتلا ومعاديا للفلسطينيين، بالمنطق ذاته بدعة أطلقت عليها اسم “مقابر الأرقام”، إذ يتحوّل الشهداء إلى مجرد أرقام.

إن حفظ اللغة حاليا لأسماء الأشياء المندثرة لا يعني إلا وجود تلك الأشياء في زمانها هي وليس في الزمان الراهن، سواء أكانت جمادات أم حيوانات أم بشرا، ولا يعني أكثر من أسماء تعلقت بحياة من تلبست به لا أكثر ولا أقل، وتستخدم تلك الأسماء لبناء ذاكرة الماضي اللغوية والاجتماعية والثقافية، ولعل أكثر ما تستدعيه الذاكرة في هذا الباب أسماء القادة والشهداء والمعارك، أو كل ذلك التراث الاسميّ المهمّ في بلاد الأندلس، وما يتفرع عن ذلك من أسماء الأعلام والأشياء والأماكن، ومتعلقات حضارة كبرى تحققت في تلك البلاد على مدار ثمانية قرون، لم يبق منها سوى الأسماء. والشيء نفسه يقال عن كل حضارة تراجعت لتحتلّ أسماؤها ذاكرة المعنيّين بها.

هذه المسألة مهمة في بحث أمر اللغة، وأمر الإنسان في كونه أكثر المخلوقات استخداما للغة المنطوقة على نحو مُبين، دون الدخول في تفاصيل اللغات الأخرى الإشارية أو السيميائية اللونية أو ما شابه، ما يقود إلى التوقف عند الإشارة الثانية التي قد توحي إليها الآية القرآنية، إذ لا تواصل دون أسماء، فشرط تحقق الحياة التواصلية بعد إعلان الوجود، هو وجود الأسماء، فتكفي معرفة الشخص للأسماء ليحقق أول شروط التواصل الاجتماعي، فليس شرطا وجود الفعل ولا الحرف ليتحقق التواصل، ولذلك ترى أن هناك حالات كثيرة في التواصل الاجتماعي يغيب الفعل كلية عن المشهد، ولا يحضر إلا الاسم. ولكي أوضح هذه المسألة أنقل هذا المشهد من إحدى ورشات العمل، عامل الكهرباء الخبير من يقوم بتمديدات الكهربائية في المنازل، وهو في معمعة العمل يطلب من معاونه أن يناوله الأدوات دون الحاجة لينطق بالفعل، فيكتفي بالقول: شاكوش، مفكّ، برغي، السلم، المصباح، وما إلى ذلك. وهذا يحدث مع كل فني وخبير في مجال عمله، فهو دون أن يعي لا يطلب سوى الأشياء بأسمائها فيفهم المعنيّ المقصود تماما دون الحاجة لزوائد لغوية أخرى؛ فعلية أو حرفية.

يبدو لي أنه تم اختراع الفعل في فترات متقدمة من عمر اللغة البشرية، لأنها أصبحت تهتم بالتفاصيل وتداخلها، وقلّ الاعتماد على السياق الواقعي. تعالوا مثلا نجرب هذه التجربة لو أخذنا رواية ممثلة في السينما ونقارن ما الذي اختفى وما الذي برز عند التمثيل، سنجد أن كثيرا من الأفعال قد اختفت ولو فتشت عنها في النص الممثل لوجدتها ذابت في تحقق الأشياء في وضعياتها من السيناريو المتحقق في ديكورات المكان التي تنبئ عن أفعالها الغائبة. ذاب الفعل في الشيء وبقي الشيء أي الاسم، ولذلك ستلاحظ أن النص الممثل أقل حجما من النص المكتوب، وربما توقف نجاح “السيناريست” على هذا النقل من عالم اللغة المجرد إلى عالم الأشياء لتكون البديل الناطق عنها.

تقود مسألة الاسم أيضا إلى السلوكيات المعاصرة بفعل الحياة الجديدة، سترى أن الاسم مهم جدا في تحقق المخترعات وتسجيلها والحصول على براءات اختراع، إنه المعنى الأوليّ الذي أشرت إليه أعلاه من تحقق وجود الشيء بتحقق الاسم، ولذلك لا يكون لمُخترَعَيْن اثنين الاسم ذاته، كما أنه لا يصحّ أن يكون لأخوين اثنين الاسم ذاته. إنها مسألة تنظيم اجتماعي تفرضها سلطة الاسم. فعندما التبس الاسم أيضا في قصة غسان كنفاني المشار إليها أعلاه بين “محمد علي” فقط، وبين “محمد علي أكبر”، حدثت كارثة. إذن ثمة سلطة للاسم تحمي صاحبها من التلاشي أو الانهيار.

ها قد وصلت إلى النقطة الأهمّ في مسألة الاسم والأسماء. إنها السلطة، بمعنى القوة، فللاسم قوة، فمن يملك الأسماء يملك السيطرة على تسمية الأشياء، وبالتالي يملك السيطرة عليها بكل تأكيد، وهذه القوة وهذه السيطرة مُنِحت لآدم، “فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ”. هذا عينه ما أشار إليه مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الثقافة” في شرح مفهوم الآية، حيث قال: “ينبغي أن نرى هنا في تلك الصورة الرمزية أول عمل جوهريّ للعقل الإنساني حيث يسيطر على الأشياء، وهو يخلع عليها أسماءها، الأمر الذي لم تستطعه الملائكة”، إن الكاتب الروائي أيضا هو مسيطر ذو قوة عندما يعطي لكل شخصية في العمل الأدبي اسما، وهذا الاسم بطبيعته ليس اعتباطيا، إن له دلالة في العمل الأدبي، تحقيقا للمقولة الشائعة: “لكلٍّ من اسمه نصيب”، بل لا بد أيضا من اسم كليّ يجمع كل ذلك، يكون اسما لذلك العمل، وعندما يغيّب الكاتب الأسماء لا بد أن ذلك مدعاة للتساؤل عن السبب، إذ إنه خارج عن الطبيعي والمنطقي، وكل خروج عن الطبيعي لا بد له من تفسير، وسيكون محل استفسار ونقاش.

إن الشخص أو الجهة التي تعلن الاسم أو تغيّبه أو تغيّره تكون ذات سيطرة على هذا الشيء الذي أعطته الاسم أو سلبته إياه، من ذلك تجد المستعمرين مثلا يهتمون بتغيير أسماء الأماكن التي يحتلونها، لأنهم يمارسون عليها قوتهم وسيطرتهم، وكأنها أيضا إعادة خلق جديد لتلك الأمكنة، هكذا فعل المحتلون في فلسطين عندما أعطوها اسم “إسرائيل” وغيّروا أسماء المدن والأحياء والشوارع والأشياء الأخرى الأقلّ أهمية، وتجد صراع الأسماء ومقاومتها من المحتلّين، بمبنى اسم المفعول، مهمٌّ جدا من خلال تأكيدهم الأسماء الأصلية لأشيائهم المسروقة، ومقاومتهم لكل محاولة لسرقتها، فيقفون ضد تغيير الأسماء. فالصراع على الأسماء ليس صراعا لغويا فقط، بل هو صراع حياة ووجود وسيطرة وقوة كما توحي إليه الآية الكريمة “وعلّم آدم الأسماء كلها”. فلا شيءَ أهمّ من الاسم.

وعليه فإن الله، تعالى، عندما علم آدم الأسماء كلها، علّمه كيف يسمّي الأشياء أيضا؛ ليكون ذا قدرة وسلطة وسيطرة على هذا الكون الذي سخّره الله وكل ما فيه من موجودات ليكون تحت سيطرة آدم، أي تحت سيطرة البشر. وهم الأقدر من كل المخلوقات الأخرى على توجيه الحياة الوجهة التي يريدون بحكم هذه السيطرة التي كانت رمزية في تعلم الأسماء، ولكنها لا تقف عند حدها، بل تتجاوزها إلى ما بعدها، فالأسماء بناء على ذلك هي “مَنْ” خلقت الأفعال والحروف أو أن “آدم” قد خلقها، لتصبح لغة على الحال التي هي على عليها الآن، مع ملاحظة أن نظام الجملة في اللغة العربية، انقسم إلى قسمين كبيرين، الجملة الاسمية، والجملة الفعلية، واستطاعت الجملة الاسمية أن تتخلى عن الفعل تماما، ليس في إنتاج جملة واحدة، أو عدة جمل مقطعة، بل في بناء نصوص كاملة المعنى والفكرة، في حين لم تستطع الجملة الفعلية أن تتخلى عن الاسم ووجوده، بل إن وجود الاسم شرط أساسيّ في تحقق مفهوم الجملة، كتركيب لغوي له معنى، وهذا المعنى لا يتحقق بدون وجود الاسم، منطوقا، أو ضميرا، أو مستترا، متصورا ذهنيا، ولذلك ستجد أن هناك الكثير من النصوص التي اعتمد مؤلفها في تقنية الكتابة، بوعي أو دون وعي، على الجملة الاسمية فقط، والشواهد كثيرة، وأكثر مما تحصى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى