المفرزة التي لاحقت المشاهير (8)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

لم يسع’ “ٱلماغوط” لإنجاز الحوار معي. ولم يُشِر له مطلقاً. فقررت أن أذكِّره به، لكن ليس قبل أن أسأل الفنان “دريد اللحام” عن الصيغة التي قدَّمَني فيها له. هل قدمني بصفتي إعلامية؟ أم قدمني على أنني مدرِّسِة كيمياء؟ قررت أن أقابل “دريد” في مكتبه دون موعد لأن هاتفه كان مغلقاً دوماً. بسبب مشاغله الكثيرة . وجلسات التصوير التي لايمكن قطعها بسبب غلاء أجور (الاستديوهات) بالإضافة إلى حب الناس الكبير وتواضعه وكرمه الذي يجعله يستضيف معظم الفنانين . وقد لفتني بإحدى زياراتي له أنه لم يقطع حوارنا الهام لدى زيارة ملكة جمال لبنان هيام سعادة له برفقة مصمم أزياء شهير .. حيث قامت بنفسها لإعداد القهوة. كان يسمع صوت الأطباق وهي تتداعى على الأرض ويضحك وكأنه يريد أن يقول لي: إلى أن تنتهي القهوة سيكون المطبخ في خبر كان.

غذذتُ السير باتجاه مكتب الفنان دريد. انعطفتُ نحو اليمين حيث كانت تنتصب كافيتيريا “موروكو” . آلاف الحزم الضوئية كانت تنعكس على المقعدَيْن الفارغين اللَّذيْن كنا نستودع فوقهما أحلامنا البائسة أنا وخطيبي قبل انفصالنا. حيث كنا نحلم بتأسيس دار نشر ونحن بالكاد نملك حساب فاتورة الكافيتيريا، هو طبيب متخرج حديثاً وناقد مسرحي. وأنا طالبة سنة ثالثة صيدلة .

اقتربتُ من مكتب الفنان دريد اللحام, كنتُ أرتدي بنطالاً ضيقاً, بالكاد أدخلتُه بساقيَّ السمينتين. وأنتعل حذاءً ذا كعب عالٍ لم أعتدْ على السير بمثله مسبقا.ً فما أن وصلتُ إلى باب المكتب حتى انخلع الكعب، فانحنيتُ لأجد حلا، فانقطع سحاب البنطال تمتمت بغضب: (يلعن أبو الصين على أبو الساعة التي لبست فيها كعباً عالياً. هل كان أمراً ضرورياً أن أتظاهر بأنني طويلة, وهو قصير) . ومن حسن حظي أنه لم يكن موجوداً، فرجعت (عالوحدة ونص) لا ألوي على شيء..

لم يعد الحوار مع الماغوط مهما بالنسبة لي، إذ كلما تباطأ كانت فرصتنا من اللقاءات المبررة اجتماعياً أكبر، وتتيح لي مجالاً أوسع للخوض في تفاصيل حياة إنسان يترك بصمة دافئة في وجداني إثر كل كلمة يتلفظ بها. .لكن يبدو أن الأمور تعاكسني، فحيث أردتُ أن يبطئ الحوار، اتصل هو . رفع أخي الطبيب السماعة ثم ناداني:

ـ الشاعر محمد الماغوط على الخط.

وارتبكتُ كعادتي. ذاك هو شأني كلما تحدثْتُ مع رجل, أفكر بردود أفعال من حولي أكثر من تركيزي على حديث المتصل. لم أكن أريد أن يسيء أحدهم الظن بي . فأنا كنت مجرد معجبة بنصوص الماغوط على الورق . فقد فتحت عينيَّ على نصوصه المتحيزة للضحايا والأبرياء والفقراء والطبقات الكادحة والإنسان المحكوم بشتى أنواع السلطة (الدينية والسياسية والأبوية). أحببت ذلك التفرد في شعره حيث كان دوماً يُشَبِّه الشِّعر بالحيوان البري تُدَجِّنَه القافية والتفعيلة والوزن . وكان لا يهوى كثيرا ذلك التدجين.

أحببتُ أسلوبه الخاص الذي لايشبه إلا نفسه. رغم بساطة تعابيره التي لم تتمكن الترجمة من تشويهها. شُغِفتُ بذلك الحزن الذي يشبه حزن أبي الذي كانت حياته كوميديا ساخرة ومحزنة. فجدي “عبد اللطيف الخشن ” الذي رباه المجتهد السيد” محسن الأمين “حين لمس فيه النباهة والذكاء وسرعة البديهة. كان قد هاجر حين قرعت نواقيس الغربة، وابتلعت ولولات السفن حشرجات الأمهات الذين غالباً ما يودِّعْنَ أولادههنَّ دون رجعة. فترك والدي “كمال” يعالج الفقد والحرمان والجوع ومضى يحدوه الأمل بالعمل مع أخويه اللذين زيَّنا له الغربة. ولكن سرعان ماتركاه فريسة للجوع والتشرد، . ليعاني مايعاني ويكافح ويغامر، حتى اهتدى إلى عمل في الصحافة. حيث طلب منه رئيس تحرير جريدة ” الفطرة ” أن يعمل معه . وعهد إليه بتحريرها بعد أن لاحظ كيف كانت تتدفق الحروف كالشلال الهادر من بين أصابعه. بينما كان الوطن العربي يغلي كالمرجل. وكانت بذور حركات التحرر الوطني في بدايات نهوضها. وقد لمس” سيف الدين رحال ” كيف كانت العروبة تسري في دم جدي حين ينشد إحدى قصائده:

نمتم على الضيم في أبَّان ثورتنا / ونحن في جبهة التحرير لم ننم

نكستموا كل أعلام لأمتكم / وإنني لم أزل ناراً على علم 

(ويقصد جريدته العلم العربي )

فكم وقفتم على أبواب داعرة / وكم حنيتم رؤوس الذل كالغنم .

يالاصقين بنا عورات أنفسكم / تعساً لِمتَّهم في ثوب متَّهمِ

قالوا :العروبة داء فيك، قلت لهم: داء ولكنه خال من الألم .

آمنت بالعرب إيماني بخالقهم، آمن بمن شئت، بالشيطان بالصنم

هكذا امتطى عبد اللطيف صهوة الصحافة مدافعا عن العرب ووحدتهم حيث يقول::

أراني لا أفرق بين قطر وقطر تحرر من بلادي

نضالي للجميع نضال حر أحارب فيه تجَّار المبادي

وغرسي للجميع فلا تسلني كم استثمرت أيام الحصاد

صديقي من يصادق يعربيا عدوي للعروبة من يعادي

وبعد سنوات من تحريرجريدة ” الفطرة ” أسس جريدة “العلم العربي” . باللغتين العربية والأسبانية التي استلم تحريرها بعد وفاته, شقيقي “عصام الخشن ” . وقد عاشت الجالية العربية في أمريكا الجنوبية مع قلم ذلك الشاعرذي الوهج الوطني الذي كثيرا مايُذَكِّرُها بعبق الوطن حين ينشد:

إذا ذُكِرَتْ بلادي رحتُ أبكي على نفسي لأني من بلادي

أحسُّ ببعدها ناراً وليستْ تحس بأوبتي أو في بعادي

ألا ياعائداً للحي عفواً أكاد أشقُّ من حسدي فؤاي

أأسقي حقل أوطاني بدمعي؟ ولا أجني سوى خرط القتاد .

هكذا كان قلم ” عبد اللطيف الخشن ” الذي قال عنه الشاعر ” جورج صيدح ” : ” إنه أحد سنان جردتْه الصحافة العربية في وجه الإستعمار والصهيونية . هذا القلم الظريف اللطيف النظيف، الذي يصول ويجول على صفحات “العلم العربي” في” بوينس ٱيرس / الأرجنتينن” . قلم فتَّاك متى غضب .جذَّاب مطراب متى رضيَ . تحوطه لعنات المارقين وصلوات المخلصين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى