أضغاث صحوتي.. ابنتي.. إياك وقلبي (12)
منال رضوان | كاتبة مصرية
اللوحة للفنان : محم رضوان
إلى جانب عملها رئيسة للحكيمات بمستشفى الهلال الأحمر الخيري، كانت أمي تتصف بالرحمة إلى حد جعل البعض يتندرون عليها عندما أراد أبي افتتاح أحد المشروعات التجارية، فأخبروه أن “سعاد” ستمنح إلى رواد المطعم الوجبات بالمجان، إضافة إلى أموال المواصلات.
كثيرًا ما كنت ألمحها تتوقف لشراء الحلوى للأطفال الصغار أو تهرع إلى حقيبتها عند وجود بعض المرضى ممن لا يمتلكون ثمن تذكرة الطبيب، وعند وجود حالة تستلزم التدخل الطبي العاجل كانت تأخذها إلى عيادة د. منير الصباحية ليوقع الكشف الطبي عليها وتتكفل بالأمر كله، كانت تؤمن أن التمريض رسالة إنسانية ولذا لم أتخيل أن تمتهن هذه السيدة مهنة أخرى.
بحكم كوني طفلة وحيدة؛ فكان ذهابي معها إلى العمل في العطلات الصيفية من الأمور الحتمية، أذكر أنني كنت أجلس إلى مكتبها ومعي الألوان وقصص الأطفال، وعند موعد الانصراف كان بعض الباعة يتلاحقون على بيع ما بقى من بضاعتهم البسيطة والبسيطة جدًا إلى (أبلة سعاد).
دجاجة وقطعة من الزبد مع “أم جمال”، أو القليل من فاكهة الشمس مازالت “أم هاني” تحاول منحها قبلة الحياة باستجداء الماء من “ثروت السماك”،
لم تتذمر أمي، وإن كانت أحيانًا تخبرهم بعدم امتلاكها الأموال الكافية لذلك. فيفتتحون المزاد بمفتاح السر الذي كانت أمي لا تغلق بابه أبدًا: (ربنا يخلي لك منال يا أبلة سعاد! )
تتنازل أمي عن رفضها وتعود إلى المنزل محملة بأشياء يمكن تناولها – أحيانًا – وبالطبع لم تكن تسلم من الاعتراض أو التوبيخ، واتهامها غير الصحيح بالسذاجة.
(كل ما هنالك أنهم يحتاجون إلى الأموال وأقسموا علي بابنتي.)
هكذا تدفع عنها الاتهام ببساطة وهدوء، لإنهاء الجدل المثار من زوجها أو جدتي التي كانت تقطن بجوارنا.
وفي أحد الأيام قبيل انصرافنا أحضرت “أم جمال” ثلاث دجاجات تعقد الخيوط حول أطرافها، واتبعت سياستها في فن البيع، والتي لا تخيب ومنحتني (قرصة فلاحي بالسمن) عقب الدعاء لي بطول العمر والنجاح،
وافقت (الأبلة) على عقد الصفقة، الشراء في مقابل الدعوات! وضعت أمي الدجاج في أرض الغرفة وذهبت للتوقيع في كشف الانصراف، فإذا بي أجد إحدى الدجاجات وقد انتزع القفص الخشبي أظافرها وتجمع الدماء على أحد أطرافها.
ما لبثت أن جاءت أمي، فوجدتني باكية لاهثة أضع المناديل الورقية على قدم الدجاجة في محاولة لمحاكاتها في تضميد الجروح، أخبرتها بحال الدجاجة الجريحة وسألتها التدخل لإسعافها، وكانت هي المرة الأولى التي تنهرني أمي فيها:
(في هذه الدنيا، لم يؤلمني قدر قلبي. خذي من صفاتي ما تودين عدا قلبي. كفي عن البكاء)
قالتها بلهجة حادة آمرة.
– (قلت كفي عن البكاء)
وفي ذلك اليوم أصرت أمي على ذهابي معها إلى عم نبيل الفرارجي قبل ذهابنا إلى المنزل، والعجيب أنها وقبل أن يمرر إبراهيم صبي المحل سكينه على أعناق الدجاج أخذتني وانصرفت مبتعدة بضع خطوات.
فكما أتذكر جيدًا أنني لم أشهد ذلك الأمر.
رفضت أمي أن تورثني فؤادها وخاب سعيها مع الأسف؛ فالرفض الصارخ لمرة توارى خلف عشرات المواقف من الإيثار والتراحم.
ورثتُ تركة ثقيلة سجنتها أمي بين ضلوعي، تركة ملبدة بالحزن والمعاناة من الاستغلال والخيانة بل والتعرض للنصب أحيانًا، لكن ربما حان الوقت أن أكون أكثر حسمًا وأنا أعيد على مسامع طفلتي صرخة أمي:
(ابنتي.. إياكِ وقلبي.)