عميل رقم ٢٣٦

محمد سعيد
لم أكن أصدق أبدا أن حادثة صغيرة مثل تلك تترك كل ذلك الأثر المأساوي ،في نفس زميل الدراسة القديم،كنت صغيرا، ولم أتجاوز الثانية والعشرون،حينما عدت من حفلة راقصة ،كانوا يوزعون فيها زجاجات البيرة كما يوزعون الهدايا في العيد.كنت حديث عهد بتلك الأجواء المشحونة بالرغبات والأحلام ،تلك الأجساد الأنثوية الساحرة، وبتلك الملابس العارية المبهرة، ولم أكن أعرف البيرة وتأثيراتها غير المتوقعة،ولا أدرك غير ما أري وما أحس، وللدقة حالة السكر والنشوة المصاحبة لصوت الموسيقى، وهذا العالم الذي يضحك بدون سبب واضح من حولي!. كنا أربعة طلاب نسكن في شقة في كامب شيزار بالإسكندرية ،علي مقربة من الترام، وكان لكل منا توجهاته وولعه الخاص،فمنا من كان يعشق أغاني فريد الأطرش، وآخر يعشق نجاة ،وفي السرير المقابل لسريري هناك من ينام ويصحوا علي صوت ميادة الحناوي!. جاء سمير زميلنا القديم في إجازة صغيرة لأربع وعشرين ساعة من عمله الجديد. كان قد تخرج قبلنا لعمره ولحرصه الدراسي، وطموحه الذي لم أقدر علي تفسيره حينها، بقدر ما سخرت منه ،! .دخل الحمام ليستحم، وكانت البرودة شديدة جداً في الخارج، وصوت المطر يشعرك بالعزلة والفقد،كان وقتها سخان الشعلات ذو هيبة ووقار ، وما كان مني حينها بعد أن توجهت للحمام ،وانا في حالتي تلك، ثم طرقت الباب وعرفت أنه في الداخل، إلا أن فتحت، مندفعا،صنبور مياه الحوض الخارجي،علي جردل فارغ،كنت قد وجدته معلقا بجانب المرآة،تركته حتي امتلأ،ثم حملته،وكان الحمام به فتحة كبيرة قبل السقف، مثل الحمامات العمومية، وتصل إليها الأيدي ،ثم قمت،دون أن أحس بشيء، بحمل الجردل ثم دلقت ما فيه علي جسد الزميل المسكين!. الذي صرخ صرخة مدوية، لكنني لم أتأثر،وقلت له:معلش تعيش وتأخذ غيرها!. كنت أظنها دعابة مثل دعابة إشعال ورقة بين أصابع الأصدقاء النائمون في معسكر صيفي!. يزعلوا شوية ثم ما تلبث أن تتحول إلي ذكريات مبهجة.
لكنه لم يتحدث معي عندما خرج، كان معتزا بنفسه وكرامته،حزينا في أعماقه. شعرت،فجاءة بذنب يأتيني من بعيد،من أعماق اللحظة نفسها، وتحت تأثير خدر رقيق حاني ،قلت له : أسف…لم أكن أقصد، إلا أنه لم يلتفت حتي ليري وجهي!
ضاعت البهجة في لحظة وحل محلها وجوم وألم في الرأس!.
ما هذا الذي فعلت؟! كم مر من السنين علي هذا الحادث الأليم؟ الآن أدرك أنها كانت مؤلمة جداً!،عشرون عاما. أو أكثر ،هل مازال يتذكرني؟
اه لو يعلم ما حدث لي طيلة السنين التي مرت، لسامحني وسامح الكون كله ،ولربما تعاطف معي وبكي،ثم أخرج من جيبه عشرة جنيهات ودسها في يدي،حتي لا يراه أحد. لا بد أنه دعا علي من قلبه أن تنتقم مني الحياة!.لكن هل هذا ممكن؟،طلبي معطل، الشك قاتل، هناك شبهة تعمد،وحدوسي دائماً ماتصدق !.لماذا كل هذا التأخير ؟ثمة غموض يكتنف المسألة؟
كل هذه السنوات لم تنسيه تلك الواقعة ؟علي الرغم من منصبه الجديد ومكتبه الأنيق، ماذا جري؟كنت تمشي كالمسحور باتجاه شواطيء الحرية والشهرة، ثم امتطيت ،بقوة شبابك كله، جواد المغامرة الأرعن،وانطلقت بأقصى سرعة حتي سقط بك! .ماذا عنك الآن؟ موظف حسابات براتب متواضع، لا أنت غني ،ولا أنت فقير ،مجرد موظف، وظيفة لمن لا وظيفة له!.
لكنني لست رافضاً، وأشعر، مع ذلك، بالتكيف مع حياتي، ربما لمعرفتي لنفسي والظروف التي أعيش، وأعترف أن الحياة قد لقنتني درسا قاسيا.لكن مشكلتي، دائماً، مع الآخرين، مع من يحملونني أوزار الماضي، خصوصاً ماضيهم…هم!، ثم يضعونني ،بعد ذلك، في المواجهة مع مستقبلهم !،هم قادرون، دائماً،علي أن يعيدوك إلي مربع الرفض والشك والمرض ! أين أخلاق الماضي؟ أين التسامح؟!
الآن ، وليس قبل ، أعرف، إلي حد ما ، وبقدر كاف، من أنا؟وماذا أريد؟
لم يكن أمامي إلا الإتصال بخدمة العملاء للإستفسار عن سبب تأخير الطلب ،فكانت الإجابة بعد فحص سريع أن الأوراق قد أرسلت غير مكتملة! لهذا طلبي تم تأجيله .!
ثم وعدني مسئول الخدمة بحل مشكلتي سريعاً .الإقتراض حل لمن لم يجد حلاً !.كنت أجلس مثل بقية العملاء في إنتظار دوري ،قلقا متوترا، لقد كان لطيفاً ودودا بدون شك، وجعل يتذكر لقائتنا الأولي ،وهو يضحك!، أخذ الأوراق وفحصها ثم وضعها في ملف، ثم أكمل الإجراءات علي الحاسوب وهو يبشرني بالموافقة مقدماً، بعدها قام وحياني بحرارة.! هل كانت ضحكة صفراء تخفي خبثا أو ضغينة؟!. يقولون أن الإنسان حينما يصل، ويتمكن تتجدد لديه الرغبة في ألانتقام ممن تسببوا في أذاه في الماضي، وأن ذلك في صميم الطبيعة البشرية.!لكنني كنت صغيراً، سكرانا لا أعي تماماً ما فعلت !غير أني لم أكن قد بدأت بعد حياتي العملية، وكان أهلي يتكفلون بالإنفاق علي ،وأنني لم أخرج بعد، ربما، من طور المراهقة!.
-عميل رقم مائتان وستة عشر
مازال أمامي عشرون رقماً، زحام غير عادي،اليوم الخميس نهاية الأسبوع ،وعادة ما يكون البنك مزدحما. أنا الآن في إنتظار دوري ليتم صرف قيمة القرض،بعد أن نجحت شكواي في الموظف المختص!. ثمة نظام يقف كالحرس علي أبواب أي فوضي أو عبث يقابلك ،وثمة فوضي يثيرها المغرضين! وثمة فوضي من أجل الفوضي فقط !.لكن المسألة في النهاية تتعلق بمدي يقظتك ووعيك.!
-عميل رقم مائتان وست وثلاثون
قمت من مجلسي ،كمن هبطت طائرته، أخيراً، أرض الوطن ،توجهت للشباك،وقدمت تحقيق الهوية، قام المحاسب بمراجعة المبلغ ثم وضعه أمامي ، وضعت قيمة القرض في شنطة يد حمراء صغيرة، وخرجت وأنا لا أصدق، كنت سعيداً لأنني حصلت، أخيراً، على مبلغ يعينني علي حل ، ولو مؤقتاً، مشاكلي، وحزيناً ، في نفس الوقت، علي حظي من الأصدقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى