جورجيو، أول دمعة وأول حكمة!
د.أمل الأسدي | العراق
في طفولتنا بكينا مع “جورجيو” في الفلم الكارتوني”نيلز” وكم كرهنا قسوة القائد “أكسا” الذي تخلی عن ربيبه، وتنازل عن أبوته تجاه ” جورجيو” وكيف حلّق بعيدا مع سربه من دون الاكتراث بوجع “جورجيو”
ومن دون الالتفات أو الإصغاء الی نداءاته المتكررة ولهفته! فلم تحركه صرخاته بكلمة: أبي أبي أبي أكسا…
وقد اعترض” نيلز” علی قرار القائد ” أكسا” قائلا: ذلك ليس عدلا، سيشعر بالحزن وربما يغضب أيضا!!
فرد عليه”.أكسا”: إنه لايحتاجنا كي يصبح نسرا ناضجا!!
هل تريده أن يكون ضعيفا طوال حياته يا نيلز؟
وهنا كانت دمعتنا الأولی، وحسرتنا علی” جورجيو” الذي بقي وحيدا، ينادي أباه “أكسا” بلا جدوی ولا أمل!!
وحين كبرنا أكثر،وتقدم بنا العمر مع الذاكرة الرطبة بقصص الطفولة وحكايات أفلام الكارتون وأبطالها؛ علمنا المغزی من ترك ” جورجيو” وحيدا، فالحزن والوجع والشدائد عموما،تعطينا أكثر مما تأخذ منّا أحيانا!
إذ تزودنا بوقود القوة والجلادة والصبر، وحتی اليتم تربية علی القوة والمضي والإصرار؛ لذا كان اليتم نصيب رسول الله الأعظم(صلی الله عليه وآله) ، فلم ير أباه، وفقد أمه، ثم فقد جده، فوطّن نفسه علی التحمل والمواجهة والاستمرار، وهكذا كانت إرادة الله تعالی، فهو الرسول الخاتم لما سبق، والفاتح لما اُستقبل؛ ويجب أن يكون حرا بلا قلوبٍ عاشقة تقيده، وتخاف عليه من الظلم والمواجهة، وبلا حياة مُنعَّمة تعيق رحلته وحمل رسالته المُخلِّصة!!
ومع ذلك اختار له الله من يعينه ويكفيه في رحلته، فكان عمه (أبو طالب) عمادا وسندا وكهفا ، وعقلا مؤسسا قادرا! وكذلك كانت السيدة ” فاطمة بنت أسد” أمّا له ووطنا آمنا!
وكانت معه السيدة خديجة شريكةً ومواسية وسندا أيضا! وحين فقد أبا طالب وخديجة(عليهما السلام) حلت عليه الغربة وقرر الرحيل، وأطلق علی عام فقدهما” عام الحزن”
إذن؛الشدائد تصنع وتبني وتمد الإنسان بالقوة، تأخذ منه حزنا ودمعا ووجعا، وتعوضه قوةً وصبرا!
وهكذا كان” جورجيو” الدمعة الأولی، والحكمة الأولی، ومن موقف “أكسا” تعلمنا أن من الحكمة- أحيانا- أن تكون بلا رحمة!! فتقرر وتمضي ولا تلتفت، وقد تضطر إلی أن تستل بعض الوجوه من حياتك استلالا ناعما، تخرجهم من قلبك بهدوء وحذر، كي لا يتمزق هذا القلب الذي اعتاد النبض بحبهم، فبعض الحبِّ عبء وألم، ولاسيما إذا كان من تحبه(حبيب، صديق، رفيق، شريك…) أنانيا، كفه مبسوطة للأخذ فقط!! ويده مغلولة الإحساس!! فهذا لابد من استلاله من القلب والحياة، ولابد من المضي من دونه! فمن لايحمل همك ويقدمك علی نفسه،لايصلح أن تقدمه أنت علی نفسكَ، وتنزله منزلة النبض!!
أرأيتَ يا جورجيو؟ قد يكون الفراق قرارنا نحن!!
ويكون الابتعاد قصاصا عادلا لقلبٍ رؤوف، يتحدث بلغة واحدةٍ، وهي لغة الحب!!