المعجزة.. (قصة قصيرة)

نائلة أبو طاحون | فلسطين

غَرُبَت الشمس منذ زمن.. تقول اﻷسطورة ﻻ أحد يدري منذ قرن أو قرون، أظلمت الدنيا ونام الكون، وﻻ شيء ينذر بانبثاق النور. واستيقظت شياطين الشر تُشيّد عرشها فوق أنقاض النيام، كان ﻻ بدَّ من حدوث معجزة كميلاد فارس أو استيقاظه لِيُقَبّل عين الشمس لتصحو وتشرق الشمس من جديد، ولكن هيهات فشياطين الشر تسجنها، وتُجدد بندا في دستورها: ملعونٌ من ينطق باسمها، مقتولٌ من يحاول الدنوّ منها أو تقبيلها.

تنبأ أحد الشياطين يوماً بأن مولودا صغيرا سَيهز عرش الشيطان بيده، وسيوقظ عين الشمس بقبلته، ثم اختلطت النبوءة، فلقد تنبأ آخر بأن المولود شيخٌ هَرِمٌ فصدقوا النبوءتين، وجندوا كل قواهم لقتل أيّ مولودٍ يولد بل وقبل أن يولد، وكل رجل وامرأة.

تقول الأسطورة أنَّ امرأة تحتضن في رحمها جنينًا دُفنت بين الأنقاض، جثثٌ هنا وأخرى هناك، ودماء تجري كالنهر فوق أرض دنستها يد الشيطان. نام الكون كل الكون إﻻ تلك المدينة ففي النوم نهايتها، يد الشيطان تصفعُها، تَوَدُّ لو تُطفئ النور المُنْبعث من أعماقها ليعيش الكون في الظلام. جنين الأم في رحمها ينبض بالحياة، من النور الذي عشقته يستمد الحياة، ﻻ أحد يدري كم من الأعوام مكث في أعماقها، كبر حتى شاخ، الطفل الهرم مزَّق جدار الرّحم من حوله، زلزل الكون وخرج من بين الأنقاض تحرسه كلّ الأرواح الهائمة والدفينة.

هاله المنظر…لم ير شيئا غير الموت والدمار، وشياطين الشر تُعَربد، ظلامٌ دامسٌ يُسيطر على المكان، تساءل: أين الشمس وأين النور؟!

 همست الأرواح الهائمة في أذنيه: “هناك خلف قمة الجبل تنتظرك ومعها الفرح والبسمة.”

 وأمْلَت عليه تاريخه فلِعُمره جذور وفروع مُمتدة في أعماق النور، ولماضيه وحاضره ومستقبله شمسٌ تسطع، لكنها غَرُبت خلف قمة الجبل حيث عرش الشيطان وأتباعه، الطفل الهرم عشق الشمس وحلُم بها، هي أميرته النائمة وﻻ بدَّ من إيقاظها.

توقفت نبضات القلب لديه واشتد عويل الريح ، وزمجر الكون مُرَدّدا غضب الطبيعة، كان ﻻ بُدّ من اجتياز قمة الجبل في ذلك الجو الرهيب، شيء ما أيقظ الشيطان القابع داخله، رجل ثمْلٌ ملأ الكأس ثم أفرغها ألف مرة داخل جوفه، ﻻ يسيطر على نفسه، وﻻ يعلم شيئا غير ضرورة الاجتياز والتصدي.

ﻻ شيء تغير بعد مولده، فالريح تُزمجر، والصمت الرهيب القائم حولها يجعل الصيحات تعلو، وشياطين الشرّ ﻻ تريد للأرض السلام، والشيطان القابع داخله أمضى عمره في النوم فَكَرِه النوم لحظة استيقظ، وﻻ يقاتل الشيطان إﻻ شيطان مثله، تمتم لذاته: ﻻ بُدَّ من تدمير هذا الصمت.

ارتفعت أنفاسه، أخذ صدره يعلو ويهبِط، قمة الجبل بعيدةٌ.. أدماهُ الصعود وما زال في سفح الجبل، والأفاعي تسعى إليه وكل دواب الأرض تلاحقه تريد أن تنفث سُمّها بوجهه لتبعده عن الطريق كي ﻻ يصل لقمة الجبل حيث النور والنوّار.

“ﻻ بد من الاجتياز” هكذا قال لنفسه. نَبتت الأحلام من جديد داخله، ايْنعت بالأمل وتشبّث بنور يتسلل من خلف قمة الجبل، يحجبه عنه عرش الشيطان ورعيته، حيث يملأون الكؤوس نخب دمائه المسفوكة. يجب عليه أن تدمير شياطين الشر كي يسلم الكون وتشرق الشمس من جديد على المدينة النائمة.

أعياه التسلق فالطريق طويلة ملتوية لصخورها رؤوس مدببة تنغرس بلحمه فيسيل دمه الزكي غزيرا. لمحته شياطين الشر، أثارها النور المنبعث منه، تردّدت النبوءة من جديد.. وبكل ما لديها من حقد ﻻحقته.. تابع صعوده، نزفت جراحُه حتى خارت قُواه، تمهل قليلاً ليلتقط أنفاسه المُتقطعة، تحلّقت الشياطين من حوله وبكل ما فيها من حقد مزقته، لكنّ الروح المُعَششة داخلَه أبَت مغادرة الجسد المُمزّق والمُثخن بالجراح، وبأمرٍ منها.. تجمعت الأشلاء.. التأمت جراحه وأصبح أقوى. “قاوم حتى تصل”

هكذا هتفت الأرواح الدفينة والهائمة وتلك التي كانت حيّة تنتظر ميلاده، وردّد الصدى:

 “قاوم حتى تصل”

 “قاوم حتى تصل”

 قاوم حتى تصل”.

 قوةٌ جبارةٌ تدفقت إليه، وجّه نظرَهُ نحو قمةِ الجبل، رآها تُعانق السماءَ، بعينيه عانقها وتابع سيره، تبِعَته جموع ثائرة عشقت الشمس عشقا أبديا لكنها ما استطاعت فَكَّ قيد عينيها، وجموع أخرى أيقظتها المعجزة: ما استطاع أحدٌ قبله تجاوز سفح الجبل، فكل من حاول التجاوز إما قُتل، وإما سُجن، وإما ارْتَدَّ خائبا. وشياطين الشر تُشدد حراستها وتؤكد بندا في دستورها : مقتولٌ من يحاولُ الدنوّ منها أو تقبيلها. تلك الجموعُ الثائرة رأت فيه المعجزة فسانَدَتهُ ورأت معه قمة الجبل قريبة جداً فَتَبِعَته.

فوق قمة الجبل ترقد الشمس منتظرة فارسها، وفي اللحظة التي التأمت فيها جراحه تقلّبت.. اهتز جفناها.. وقليل من نور تسلّل مدفوعا أسفل الجبل نحو الجموع الصاعدة رغم كل الحواجز. ارتعشت الأجساد الظمأى لنور الشمس.. تفتحت مسامها ﻻمتصاص النور، وشعروا بقمة الجبل تقترب منهم. أما شياطين الشر فثارت ثائرتها، أصبحت النبوءة لديها أكيدة، اهتزّ عرشها، تداعت بعض أركانه، وجهوا أسلحتهم الفتاكة نحو الأجساد المتراصة والمتلاحمة. الرصاص ينهشها والمدافع تقصفها تدمرها، والطفل الهرم قاوَمَ والشيطان القابع داخله جُرِح، نزف دمه، مزقته يد شيطان مثله، غَضِب تَمَرَّد وبكل ما في تلك الجموع الثائرة من قوة خرج من صدره بركان ثائر حمى الجموع الصاعدة، والأرواح الحارسة له، والهاتفة به “قاوم حتى تصل” اتّحدت معه، وأصبح الصراع أقوى وأعنف.

تمزقت الأجساد.. وتراكمت الجثث، لكن من عشق الشمس عشقا أبديا مُنح عمراً جديداً ليستكمل قصة عِشقه، فتعود الروح إليه، تجري الدماء في عروقه، ويخفق قلبه “باسم الشمس وباسم النور” فيصير أقوى، ثمّ يمضي صاعدا خلف الجموع الثائرة، ومعانقا قمة الجبل حيث النور والنوار، وحيث ترقد البسمة، الفرحة، الأماني العذبة، وكل المعاني الجميلة للحياة.

وكانت الطريق تزداد صعوبة كلما اقتربوا… … …. …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى