مهضومة
قصة: ميسون أسدي
ذهبت لزيارة إحدى صديقاتي التي تسكن في المدينة المجاورة لقريتي، بعد أن اتفقنا على موعد محدّد للقاء. عند وصولي إليها، قالت لي بتحفظ: لقد توفّي كبير عائلة المهضوم وعليّ أن اذهب للتعزية… فسألتها:
– هل هم من اقربائك؟
– لا، لكنّ جميع أهل المدينة القديمة يعتبرونهم مثل الأهل وأكثر. تعالي معي، لن يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة، فكما تعرفين أن التعازي تجري بشكل خاطف لكي يتاح لجميع المعزّيين وهم كثر القيام بالواجب، فالمكان لا يتّسع للجميع.
ذهبت معها وهناك لم أشعر بالجو الحزين القاتم، كان العزاء أشبه بزيارة عاديّة، يتحدّثون بشتّى المواضيع، دون التطرق للموت، لفت نظري في المكان المخصص للنساء أن الجميع يتوجهون لسيدة ويعزّونها بحرارة. قصيرة القامة ممتلئة الجسم قويّة القدمين، بشرتها قريبة إلى السواد وجميلة. عندما استمعت إلى كلامها وجدت أنّها أريحية، تشتم من وراء القلب، تتكلم في جرأة وصراحة تامتين، فسألت صديقتي من تكون وقالت: انّها عائشة المهضوم شقيقة المتوفى والشتائم عندها جزء من مفرداتها اللغويّة اليوميّة.
أضافت صديقتي: انّها تلبّي نداء المساعدة لكلّ من يطلب، تفي بوعودها وتبادر لإغاثة كلّ محتاج. منفعلة لشتى الأسباب، وطائشة لحدّ الاستهتار. جريئة، تنتمي لعائلة من فتوات البلدة المعروفين، فلا تخاف اقتحام المخاطر.
سألتُ صديقتي: كيف تساعد الآخرين؟ فقالت: كانت العائلات الفقيرة تستنجد بها في أفراحها للمساعدة في جمع “النقوط” (الهدايا الماليّة التي تقدّم للعروسين في الفرح). في ذلك الحين، كانت تقام الأفراح في صالات العروض السينمائية أو في قاعات بيتية واسعة يتمّ استئجارها من قبل صاحب الفرح، ويصطفّ المدعوون على مقاعد كما في المسرح أو السينما وتكون هناك منصّة يجلس عليها العروسان وأعضاء الفرقة الموسيقية وأمامهم طاولة عليها بعض المشروبات الخفيفة، وأحيانًا تكون مشروبات روحية لأعضاء الفرقة، غير ظاهرة للعيان، حيث توضع الزجاجات تحت الطاولة. كانت عائشة المهضوم تعتلي منصّة المسرح بين الحين والآخر وتهتف بأعلى صوتها: “هاتوا… هاتوا” فيعتلي أحد المدعوين ويناولها النقوط، فتقول: “هاي 20 ليرة نقوط من أبو فلان”، ثمّ تضيف: “هاتوا وزيدوا”… فيتحمّس المدعوون ويتهافتون على المنصة واحد تلو الآخر وهي تعلن عن مقدار النقوط واسم مقدمها، وهكذا، بين كلّ فقرة موسيقية وأخرى تقدّمها الفرقة. ينتهي الفرح بسعادة أهل الفرح بما قامت به عائشة، الأمر الذي يخجلون أن يقوموا به بأنفسهم، فمن غير اللائق أن يطلب صاحب الفرح النقود. كانت عائشة واخريات يقمن بمثل هذه المهمة دون مقابل، وكانت عائشة أفضلهنّ، لأنّها لا تخجل أن تنادي باسم بعض الحاضرين الذين لم يتقدموا بهداياهم بعد. في المقابل، كان أهل الفرح لا ينسون معروفها، فيقدمون لها بعض الهدايا وهي تكون راضية حتّى لو لم يفعلوا ذلك.
استرسلت صديقتي بالحديث: من المواقف الغريبة التي قامت بها عائشة، أنّها في عرس حمدان الأعرج، لم تكن مهمتها جلب النقوط، لكنّها اعتلت المنصّة كعادتها وتناولت الميكرفون وقالت للحضور: “لقد نذرت لحمدان الأعرج الذي أصبح في جيل الأربعين ونيّف نذرًا، أنّه إذا تزوج في يوم ما سأظهر للعالم مؤخرتي علنًا”… وما أن انتهت من كلامها، حتّى رفعت تنورتها ووفت بوعدها… فما كان من شقيقها الذي كان حاضرًا، إلى أن جرى صاعدًا للمنصة وانزلها عنها بسرعة خاطفة.
في أحد الاعراس الذي أقيم في قاعة افراح رسميّة، بعد أن اختفت تلك القاعات التي كانت تعتبر شعبيّة، حضرت عائشة إلى العرس مع مجموعة من نساء حيّها، فأهل العريس هم من اصدقائها المقرّبين، وخلال السهرة، توجّهت إليها والدة العريس وقالت لها: لقد طلبنا من صاحب القاعة اليهودي من أصل عراقي، أن يضيف من زجاجات المشروبات الخفيفة على الطاولات ورفض… كانت الأم تقصد أن تتوجه عائشة بنفسها وتجبره على القيام بذلك، لكنّ صاحب القاعة ولشدّة بخله ولعدم معرفته بعائشة المهضوم وما تستطيع فعله إذا رفض، لم يستجب لطلبها. فما كان من عائشة إلا أن توجهت إلى جميع الطاولات وهمست لجميع المدعوين بأمرٍ ما وعادت إلى طاولتها، كأنّ شيئًا لم يكن. ورويدا رويدا أخذ المدعوون بتناول كلّ شيء زجاجي على الطاولة من كووس وصحون وزجاجات وغيرها وقاموا بتهشيمها تحت الطاولة المغطاة بشرشف طويل يتدلى إلى الأرض، دون أن يشعر أحد من أصحاب القاعة والعاملين فيها، وما أن انتهت السهرة في موعدها المقرر حسب نظام القاعات وأخذ المدعوون بالخروج من القاعة، توجّه “الجرسونات”- نُدُل – إلى الطاولات لإزالة ما تبقّى من صحون وكؤوس وتنظيف الطاولة، فلم يجدوا سوى الأوساخ وبقايا الأكل ولم يجدوا أيّ صحن أو كأس أو زجاجة. استغربوا الأمر وكان جميع المدعوين قد غادروا القاعة، فتوجّه الندل إلى مدير القاعة وأبلغوه بالأمر. استغرب من ذلك وتفحص الطاولات باحثًا عن المواعين. رفع شرشف إحدى الطاولات فوجد أكوامًا من الزجاج المحطّم، فما كان من باقي الندل إلى أنّهم فعلوا بالمثل مع باقي الطاولات ووجدوا نفس الأمر. هنا فهم صاحب القاعة ما حصل وأخذ يلطم على وجهه، في نفس الوقت الذي كانت عائشة تحمل بيدها طبلة تنقر عليها وتغني وسط المدعوين على قارعة الطريق مقابل القاعة.
أراد صاحب القاعة أن ينتقم من هذه الفعلة، لكنّ أحد الندل، وهو صديق مقرّب من عائلة المهضوم، أخبره من تكون هذه المرأة ومن يقف وراءها وأنّه سيكون الخاسر الأكبر إذا بادر للانتقام. وأعلمه أيضًا أنّه سمع بأنّ ما فعلوه كان نتيجة لرفضه زيادة المشروبات على الطاولات، وما عليه إلا أن يتحمّل نتيجة أفعاله، لأنّ عائشة وعائلتها لن يتردّدوا في تحطيم قاعته رأسًا على عقب إذا ما بادر إلى الانتقام.
ثمّ استدركت صديقتي قائلة: لم يعرف الجميع الحسّ الوطني الذي تتحلّى به عائشة، كان يعرفون بأنّها تحبّ بلدها وأبناء بلدها ومستعدّة للإستماتة من أجلهم، لكنّهم لم يروها أبدًا في مواقف وطنية صرف، إلى أن صادف وفاة الزعيم العربي جمال عبد الناصر عام 1970، فقام أهل البلدة القديمة بإقامة جنازة صوريّة حملوا فيها نعشًا فارغًا وعلى مقدمته صورة كبيرة للزعيم. فقام أفراد الشرطة بصدّ الجنازة حتّى لا تتقدم أكثر من حدود البلدة القديمة، وآنذاك، خرجت عائشة من وسط المظاهرة وهجمت على أفراد الشرطة بكلّ ما أوتيت من قوّة، فدبّ الحماس في المشيعين وتشابكوا مع الشرطة وتمّ اعتقال العديد منهم وعلى رأسهم عائشة.
في نفس اليوم قام أفراد عائلة عائشة واصدقاؤها المقرّبون من الفتوة، بمهاجمة مقرّ الشرطة وإحراق إطارات السيارات، ممّا جعل الشرطة تفرج عن جميع المعتقلين خوفًا من تفاقم الأمر.
بعد استماعي لقصص هذه السيدة، قمت لأقدّم التعازي لها قبل أن أغادر، لكنّها استوقفتني وسألتني بصوت عال: هل عندك أولاد؟
فأجبتها: نعم لدي ثلاثة أولاد، أحدهم أصبح في سنّ الثلاثين…
حين عرفت بأنّه غير متزوج، قالت لي بصوت عالٍ جدًّا: لا تهكلي الهمّ، فزيجته ستكون على يدي وسأختار له أفضل الفتيات وأجملهنّ، وسيكون له عرس كبير، سيتحدث عنه الجميع، من “الأوادم والمنايك”…
علت الابتسامة وجه صديقتي بينما لم أستطع مجاراتها الأمر.