قراءة في رواية “القبان” للكاتب ريبال محمد صابر
محمد قدو الأفندي | تركيا
فازت هذه الرواية بالجائزة الأولى في مسابقة جائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها 24 لعام 2020، والروائي ريبال له نشاطات ثقافية متعددة محلية وكتابته لهذه الرواية والتي يبلغ عدد صفحاتها 192 صفحة هي الأولى وفوزه بالجائزة الأولى في باكورة اعماله يعكس ثقافته الواسعة واداوته القيمة التي أستطاع من توظيفها باجادة تامة، وكان في حينها طالب جامعي وحسب علمي لم يكن الروائي ريبال في كلية الآداب حتى يستفيد من دراسته للمنهج الأدبي في الجامعة، وهذه دلالة أخرى على موهبته الفذة وإمكاناته المتميزة في نقل وقائع سردية بوليسية وأجتماعية وأخرى ضبابية غير واقعية ومزجهما بطريقة عبقرية دعما لفكرته التأويلية.
رواية القبان مزيج متكامل ومتناسق من أبجدية المسرح والرواية البوليسية وحكايات عابرة تتصيد واقعيتها أحيانا لتعبر عن شخصيات نفسية قلقة تعيش وهما حقيقيا في شخوص المسرح أو في مسرح الحياة بكل تفاصيلها ومما يزيد الجدل حول الرواية وحول شخوصها وشخصياتها واماكنها وحتى في أزمانها والذي تفنن الراوي في إضفاء عالم غامض وضبابي على زمان ومكان وشخوصها، فإن الراوي تعمد في نقلاته السريعة والمبهمة بين الواقعية والسرد البوليسي وشخوص المسرحية في منع القارئ من فهم مايبغيه من تلك الخيالات الواسعة في أسطر وصفحات الرواية.
والذي أعنيه هنا أن الضبابية والغموض في الرواية هو نتاج فكري خصة الكاتب كأنعكاس جدلي وتقريبي بين مسرح الحياة ومسرح بطل الرواية الرئيسي، وكأنه يخص واقعنا الحالي ببالغ الدقة.
معظم الأحداث الواقعية مكرسة أساسا في المداخلات الغير الطبيعية التي تترافق مع الأحداث وهي تكون مادة بوليسية بصورة فجائية أو ينتظر منها أن تتحول إلى أحداث بوليسية لاحقا، وفي الحالتين يتسع المقام للمحلل النفسي والباحث الاجتماعي والمحقق البوليسي ودوائر الرصد المجتمعي .
ففي إحدى صفحات الرواية يرتكب الشوفير حادث سير ومعه في السيارة البطل كريم وهو كاتب مسرحي غير معبأ بالزمان والمكان تماما ويصف الخبر كالآتي :
انتشر الخبر في أرجاء العاصمة كانتشار النار في الهشيم، وصار خبر الساعة على كل لسان، واشتغلت التكهنات والاحتمالات بحسب تحليلات المحللين وأراء المنجمين وحسابات من له شأن في الموضوع، ومن لاشأن له فيه، وهو حدث استثنائي حتما .
إن تعمّد الكاتب ذكر الحادث في العاصمة وانتشار الخبر على نطاق واسع يبرهن تماما على التأويل الواضح في أحداث وشخوص الرواية وربما كان الكاتب قد استطاع بمهارة اختيارية لشخوص وتسلسل الحدث في الرواية من إظهار متميز للواقعة في تكريس هذا التأويل، وهذه ضمن سلسلة من الأحداث التي أجاد بها الروائي في الاختيار بين أحداث الرواية بصورة عامة وهذا التاويل وهذه الحبكة تمهدان الطريق لقراءة مشكلة اجتماعية يعاني منها المجتمع على نطاق واسع، بل إن قراءة الصفحات ما قبل الحادث يؤول تماما إلى وجود اضطرابات ومنافسات في الساحة بشكل عمومي وهذه الاضطرابات هي انعكاسات واقعية وغير مباشرة من تناحرات جهات متحكمة ومتسلطة وبمعنى أدق إن إدارة تلك الفوضى والاضطرابات تقوم بها مجموعات تسلك مسارات رجال متنفذين وبقوة ولكن بثوب مافيات .
ورغم وجود قراءة متأنية لأحداث بوليسية بعضها واقعية تحدث غالبا وبعضها هي عصارات مجتمعية تتشكل عند بعض الفئات من أبناء المجتمع وما الوسط الفني أو المسرحي والسينمائي بغريب عن تلك الاحداث، ومن هنا يتبين لنا دقة اختيار أبطال الرواية والمزج السلس بين الأحداث البوليسية والغموض والتاويل وربما تكون تلك الدقة في الاختيار هي إحدى الأسباب التي مهدته لنيل الجائزة الأولى في مسابقة عربية .
يذكرني كاتب هذه الرواية بالجهود الرائعة والأصيلة في رواية يوسف إدريس والذي استطاع من خلال مجموعته القصصية “النداهة” من تصوير الواقع الدرامي تصويرا فريدا حيث طاف بتلك الوقائع وحلق بها عاليا لتتحول تلك الأحداث الواقعية في جزء من المجتمع المصري في نظر القارئ إلى خيال غير واقعي، وهنا في هذه الرواية عدة محاولات ناجحة .
مثلما كان يوسف إدريس بارعا في تحويل الواقع إلى خيال فإن كُتَّاب آخرين استطاعوا وبمهارة قلمية وسردية من تحويل الخيال وتسكينه في دهاليز المجتمع وتصويره بدقة كأحداث واقعية حقيقية، وللرواية التي بين أيدينا محاولات عدة وجادة في هذا المضمار.
وباعتقادي فإننا أمام روائي شاب سنقرأ له الكثير من الروايات والقصص المفيدة والناجحة مادام باستطاعته تركيز عدسته على حركة الحياة العنيفة والسريعة ملتقطا المتغير في حركة الحياة والغير الواقعي في أسلوب جدلي مع الكثير من الوقفات الضمنية .