تمهّل قليلا

نص: حليمة عبد الرحمن

لوحة: محمد رضوان

حبيبي
تمهّل قليلاً
لم ينطلق سرفيس الفُراق بعد
مازال هناك مقاعد شاغرة
لخمسة ركّاب
كلّما صعِد راكب
صعدت غصّةٌ على قلبي المنهك
المنهك شوقاً
حنيناً
حبّاً
ألماً و وجعاً مرّاً…أرضعتني إيّاه هذه الأرض
و غمّدته في دمي
مثلما تغمّدُ دمَك بالشّاي كلَّ يوم…
قبلَ الرّحيل يا حبيبي
سنفتح معاً هذا الشبّاك
أنت تقول لي: بأمان الله
وأنا أتأمّل وجهك السّوريّ العاصي
وعينيك الذّابلتين
كصحراء تدمر
بينما أقول لك: انتبه لنفسك…
معكَ…كلّ الأوقات تمضي بسرعةٍ فائقة
إلا لحظات الفراق
لحظات الفراق…جمرٌ في الصّدر
تقلّبه يد الوقتِ كلَّ خمس دقائق
لحظات الفراق
قلقٌ في الرّوح…فبعد الرّحيل
يغدو الموت أهون عليها
من البقاء في هذا السّجن الظالم
المدعوِّ زوراً جسداً…
كَكُلِّ شيءٍ ثقيلٍ لا يحترم المواعيد
ولا يقدّر قيمة الوقت في هذه البلاد
يعلنُ الانتظار بداية نهايته
فَيصفَعُنا على وجوهنا
صارخاً فينا: استيقظوا…
تختلف طقوس الوداع حسبَ اختلاف الحالة الجويّة
وظروف الحرارة في هذه البلاد
تارةً يودّع النّاس بعضهم بجثّة
وتارةً برصاصة
ومرّةً أخرى بذراعٍ مبتورة
و أملٍ مهشَّم
وقلبٍ منسَحق
ربّما تودّعني بابتسامةٍ حزينة
بينما أودّعكَ بوردة
قد تودّعني بقطعة بسكويت “سنيكرز”
لأودّعك بنظرةٍ طفوليةٍ بريئة
فنرفع أكُفَّنا…و نودّع بعضنا باسمين
أحياناً تودّعني بعينيك
فأودّعك بدموعٍ محترقة
تأبى أن تنهمر…
أحياناً يا حبيبي
أتمنّى أن أمسكَ يدك
أن أضغطَ عليها بقوّة
كأمٍّ تستجدي وحيدَها الشّهيد
لآخر مرّة
ألا يذهب
و هي تعلم في قرارة نفسِها
أنّه لن يعود
لكنّني أخاف…أخاف يا حبيبي
لأننا في هذه البلاد
حُرِّمَ علينا أن نلمسَ ما نحبّ
كُتِبَ علينا أن نكملَ طريقنا بأنفاسٍ لاهثة
أمّا أن نصل
فهذا حلمٌ ممنوعٌ من الصّرف
على هذه الأرض الشّاحبة…
يَدُسُّ السّائقُ المفتاح في مكانه
فيشتغل المحرّك
أتحسّس قلبي
و أتشبّث به بكلِّ ما أوتيتُ من عناد
خشيةَ أن يُقتَلَع من مكانه
كلّ المخلوقات على هذا الكوكب
مركز جاذبيّتها الأرض
إلا قلبي…مركز جاذبيّته أنت
الآن…انطلق السّرفيس
ألقيتُ نظرةً خاطفةً من النّافذة
لأتفقدّك للمرّة الأخيرة
بحثتُ عنك بين الوجوه مليّاً
لكنني لم أجدك
يبدو أنك غادرتَ منذ خمس دقائق تقريباً
هكذا حدّثتني رائحتك
ما زالت عالقةً في تفاصيل المكان
ها هو ذي خيال المدينة يبتعد عنّا
شيئاً فشيئاً
هذه المدينة
مدينة الضجة المفرطة…و الفقر الصامت
مدينة الدّوّارات الجديدة…و التعليم البائس
مدينة المتناقضات…و الأحلام المُعلّقة
راح يطويها الغياب
رويداً…رويداً
أهربُ بعينيّ الحائرتين إلى الداخل
خجلاً من أشعّة الشمس
ما زلت متشبّثةً بقلبي
مخافةَ أن يهربَ منّي
و يرجع حافياً إليك
أنظرُ إلى النّاس
المُحتَلّينَ أماكنهم حولي
أتأمّلهم…أبحث في وجوههم
أتفقّد أجسادهم…ثيابهم…أدقَّ تفاصيلهم
أستمع إلى قصصهم و حكاياتهم
أمارس هوايتي المفضّلة…بِسَبرِ أغوارهم
و نبشِ أوجاعهم…بصمتٍ مفرط
أراهم كلُّهم مثلي
أراهم كلّهم بقلوبٍ مثقوبة
هشّةٍ…غاضبة
يربّتون عليها بحنانٍ و رأفة
عساها تهدأ
أو ربّما…كي لا تنفقئ
على هذا الطرّيق الغريب يا حبيبي
قطعتني الدّروبُ بدلاً من أن أقطعها
كلّما نظرت عيناي إلى الأمام
عارضها قلبي بغضبٍ…و نظر إلى الخلف
على هذا الطريق الوحيد مثلي
يا حبيبي
أثقلت رأسي الأفكار
أسندتُ وجهي على كفّي
و رافقت الغيوم
انتشلتُ قلماً و قصاصة ورق
من حقيبة كتفي الصغيرة
و أعلنت فيها
لعنتي على كلّ شيء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى