وجه فلسطين المحتلة في رواية حارس الفنار للأديب نافذ الرفاعي
بقلم: رفيقة عثمان
تعتبر رواية “حارس الفنار” من الروايات ما بعد الكولونيالية، وهي مدرسة انطلقت لمواجهة أكاذيب الاستعمارأي أنّها الصوت الآخر. لكن ما يميّز الكتاب الفلسطينيين من ضمن هذه المدرسة هو أنّ مهمتهم أصعب وأخطرإذ إنّ الصهيونية رفضت أن يندرج كتّابها ضمن الكتّاب الإستعماريين لادعائهم أنّ الأراضي المقدّسة من حقهم. من هذا المنطلق فإنّ رواية الرفاعي تستخدم الكثير من تقنيات المدرسة المابعد الكولونيالية، وهذا ما يجعلها تستحقّ الإضاءة عليها.
أولا يناقش الرفاعي تشويه فلسطين من قبل المحتلّ، فيصور تشرذم المجتمع الفلسطيني، ويشبهه بسفينة تغرق في البحر:
هذا الفنار يشبه حكاية جدّتي: جاؤوا من مدينة في البحر الذي تسكنه الصّواري والعباب، تمادت السّفينة الصغيرة في عرض البحر بالهاربين اللاجئين من زئير الحرب، وأصوات المدافع وأزيز القذائف السّوداء، وقصف الطائرات؛ اكتشفوا أنّ السّفينة تتهادى وحدها، وربّان السّفينة قد مات، فغر فاه مثل فانوس الطّرقات التي تهتزّ ذبالته مع صخب نباح الرّيح، وحملق منتظرًا الكلمات الطّائشة التي في ذهنه عن سفينة.(الرفاعي،13)
يعكس هذا المقطع أنّ كلّ الفلسطينيين المغتربين والذين لم يرحلواغرقوا في بحر من المآسي بسسب الاحتلال. ويخبرنا الرفاعي على لسان بطلة الرواية غادة معاناة الأنقياء في فلسطين بسسب الجواسيس الذين زرعهم الاحتلال وتفكّك المجتمع الفلسطيني: “في هذه البلاد الخطرة، قد يكون الاحتلال أرحم من ظلم الرفاق،ليت هذا العالم يفتح أبوابه لي؛ ليحرّرني من ارتهاني! ممنوعة من السفر، ومطعونة فيوطنيّتي. الاحتلال والوطن يحاربانني،والقدر يقهرني.”(38). تعكس رواية الرفاعي بشاعة جنود الاحتلال الذين يقتلون و يهينون ويعتقلون الفلسطينين من دون رحمة أو إنسانية.وفي هذا السياق يؤكّد المفكّر البوستكولونيالي إيمي سيزار أنّ المحتلّ لا يشوه فقط الآخربل أيضًا ثقافته، وأنّ أيّاستعمار هو فعل ضدّ الإنسانية، لأنّه يقتل بعض المحليين، ويشوه تاريخهم و ثقافتهم.
يعتمد الروائي على تقنية أخرى لتفكيك الأدب الاستعماري و هي Hetoglassiaأي أن تخبر الرواية من خلال عدّة أصوات و خاصة “غادة و حارس الفنار”، والمعروف عن الأدب الكولونيالي،أنّه يكتب بصوت واحد أمّا المُحتَلّ فلا صوت له و السبب أنّ الكتاب الإمبرياليين وظّفتهم الحكومات الاستعمارية لبثّ الأكاذيب وتشويه ثقافات المستعمرات. جوزف كونراد Joseph Conrad في كتابهِ قلب الظلامThe Heart of Darkness لا يتقبل أنّ الأفارقة بشر مثله: “إنّ الأسوأ هو الشكّ بأنّهم ليسوا غير بشر” (Conard, 41). أمّا الكاتب الكولنيالي Joyce Cary فيصف النيجريين: “أنّهم يعيشون كالفئران والجرذان على أرض قصر، وأنّ كلّ سحر، وأنواع الفنون والأفكار والتعلم وتصادم الحضارات تطير فوق رؤوسهم إلّا أّنهم لا يستطيعون حتى أن يتخيلوا كلّ ذلك” (Achebe, 26). إنّ أفكار هؤلاء الكتاب الإمبرياليين تُدرس في الجامعات الغربية، فجوزف كونراد يدرس في الكليات الغربية للآداب أمّا Joyce Cary فكان يدرس في كليات الفنون في لندن إلّا أنّه في عام 1952 ولأول مرة رفض الطلاب النيجريين أن يدرسوا أفكار هذا الكتاب، لذلك لجأ الكثير من الكتاب البوستكولونياليين إلى أن يكتبوا رواياتهم من خلال عدّة أصوات كالروائية المصرية البريطانية أهداف السويف والكاتب النيجري تشينوا أتشيبي.
من الجدير بالذكر أنّ صوت البوستكولونياليين الفلسطينيين هو الأخطر بالنسبة للغرب،والسبب أنّه يهدّد استقرار دولة الاحتلال،لذلك تُمنع روايات سحر خليفة في أميركا بينما يروّج للكثير من المذكرات التي تبالغ بضحايا الهولوكوست.
يلجأ أيضاً الرفاعي إلى تقنية أخرى وهي الهجانة، فالبطلة غادة هجينة، فوالدها فلسطيني وأمّها أرمنية، وهذا يشير إلى عدم صفاء أيّ عرق كما يدّعي المستعمِر، وأكثر من ناقش هذه التقنية من البوستكولونياليين هوالمفكّر إدوار سعيد الذي أكّد أنّ كلّ السلالات هجينة. أمّا بالنسبة للصهيونية فتعتمد على تعاليم التلمود،فتدّعي بأنّ اليهود هم شعب الله المختار أمّا الشعوب الأخرى فتعتبر غوييم ، ومهمّتهم فقط خدمة شعب الله المختار.
ولعلّ الرفاعي اختار بطلة هجينة ليشير إلى أنّ هنالك إمكانية لتغيير نظرة الغربيين الخاطئة إلى الشرق، وكأنّ بطلته شهرذاد هجينة تروي أوجاع فلسطين للشرقيين والغربيين، وهو في ذلك يبرهن أنّه ليس ببستكولونيالي متطرّف بل بالعكس إذ لا يلمس القارىء أيّإهانة للشعوب الغربية أو لليهود بل فقط لحكومة الاحتلال، وهو في هذا يناقض مقولات إدوار سعيد في كتابه الاستشراق إذ أكّد أنّ كلّ المستشرقين غيرمنصفين للشرق:
لم أستطع أن أكتشف فترة في التاريخ الأوروبي أو التاريخ الأمريكي منذ العصور الوسطى ناقش أحد فيها الإسلام أو فكّر فيه خارج إطارٍ صاغته العاطفة المشبوبة والتعصب والمصالح السياسية. وقد لا يبدو ذلك اكتشافًا يدعو إلى الدهشة، لكنّه يضمّ في ثناياه جميع ألوان المباحث العلمية والأكاديمية التي كانت منذ مطلع القرن الثامن عشر تطلق على نفسها اسمًا كُلّيًا هو مبحث الاستشراق أو كانت تحاول، بانتظام، دراسة الشرق. ولن يختلف أحد مع القول إنّ أوائل الذين علّقوا على الإسلام، مثل بطرس المبجل، وبارتليمي دربيلو، قد اتخذوا موقف المجادلة المسيحية المشبوبة فيما قالوه. لكنّ أمامنا افتراضًا لم ينظر أحد في صحّته يقول إنّه حين تقدّمت أوروبا والغرب فاتخذت خطواتها في العصر العلمي الحديث، وحرّرت نفسها من الخرافة والجهل، كانت مسيرتها بالضرورة تتضمّن الاستشراق.(سعيد، 25)
لم يذكر سعيد المستشرقين الصادقين ومن أهمّهم أرنست رودولف، الرسام الذي عكست لوحاته الشرق بصدق . أمّا ليدي ماري مومونتغيو وهي زوجة قنصل أوروبي رافقت زوجها إلى تركيا، ودخلت الحرم، فأعطت صورة حقيقية للمرأة الشرقية التي كانت في تلك الحقبة تتمتّع بحقوق أكثر من نظيرتها الغربية.
وبالرغم من أنّ الرفاعي لا يتفق مع سعيد في راديكاليته إلّا أنّه يتقاطع معه في مقاومته للأدب الكولونيالي من خلال تصويره المجتمع الفلسطيني بأدقّتفاصيله والكثير من الأنماط: الاشتراكي و البرجوازي والرديكالي .ومن أهمّ الشخصيات”رجُل الكهف” الذي يتوقّف عن زرع أرضه ليقاوم الاحتلال، أيضًا يروي الرفاعي قصص الفلسطينيين في المغترب والذين لا تقلّ معاناتهم وتشرذمهم عن هؤلاء في أرض الاحتلال.في هذا السياق يقول إدوار سعيد إنّ الغرب يختصر المجتمعات الشرقية بعنصر واحد لتصوير الشرق بأنّه لا يملك ثقافة ،وهو يخبر كيف أنّ صحافيًّا دانمركيًّا يعتذر منه لأنّه لم يقرأ القرآن قبل أن يقابله ليتعرّف على ثقافته، فيجاوبه سعيد: “وهل تختصر ثقافتي بعنصر واحد وهو الدين؟ وهل الغرب يختصر فقط بالمسيحية؟ بل كان الأجدر بك أن تقرأ أدبنا وتاريخنا لتتعرّف على ثقافتي.”(Said,56)
من أهمّ الخصائص البوستكولونيالية في الرواية هي التفتيش عن الهوية الوطنية للمستعمَر، لأنّ الأدب الاستعماري يمنعه من أن يخبر قصصه ليعطيالعالم صورة وهمية عنه. في هذا السياق يقول فانون: ” إنّ كوادرالشعوب المحتلة يفتشون عن ثقافتهم المحلية ما قبل الاحتلال، والسبب هو الابتعاد عن الصورة التي رسمها لهم المستعمِر” (Fanon, 169). ونلاحظ أنّ الرفاعي يروي قصة وطنه في بداية الاحتلالأي بداية التشويه، ويشير إلى أنّ التاريخ يكتب بصوت واحد من قبل المحتلّ،فيقول:” كما يقول التاريخ الموهوم”. كما أنّ الرفاعي يضيء على أساطير محلية من خلال أشخاص لعبوا أدوار البطولة مع أنّ الاحتلال يحاول أن يطمر ذكراهم:
وأسف لكيفيّة التعامل مع جنازة الشاعر الثائر الذي كتب معظم أغاني الثّورة، إنّه الفدائي صخر حبش الذي دفن في أصغر جنازة لأيّ طفل في المخيّم . يقول الحارس في هذا الموضع: “أبحث عمّا يخفّف ألمي ووجعي من الموقف. يا للوفاء! أين أنتم أيها الأوفياء، يا تلاميذ المعلّم؟ وآه على غيابكم عن جنازة صخر حبش! نسيتم أشعاره وأهازيجه، سلختم جلودكم واستبدلتموها. ( 32)
لا يذكر الرفاعي فقط أخطاء المحتلّ بل أيضًا شعبه، فيذكر مثلًا لإنسانية الفلسطينيين المستفيدين من الاحتلال والذي يدعوهم فانون “بالمحتلين الجدد” لأنّهم عندما يغادر المحتلّ يلعبون دورًا” مشابهًا” له، فممثل هكذا فئة في الرواية يقول: “نحن الوحيدون الّذين كثّفنا التضامن والوقفات الاحتجاجيّة، أمّا الاستيطان فنحن الوحيدون الّذين نطالب بعدد من الباصات لنقل العمال الفلسطينيين، بعدما رفض المستوطنون أن يصعدوا في نفس الحافلات”. 111
أيضًا تعكس هذه الرواية كيف تتلاشىالحدود بين الشأن العام و الخاص عند الشعوب المستعمرة، فتكرّر البطلة غادة عدّة مرات تعبير أنّها طعنت”بشرفها الوطني” أي أنّه لم يعد يوجد أي فاصل بينها و بين وطنها.
تعطي رواية “حارس المنار” صورة بانورامية للاستعمار في فلسطين، وأهمّيتها تكمن في صوتها الإنساني والمختلف عن صوت الكتابات الكولونيالية المشبعة بالأكاذيب والتطرّف. بالفعل هذا العمل الأدبي مرآة تعكس أدقّ التفاصيل لما يحدث في فلسطين، وأتمنّى أن تترجم هكذا أعمال إلى اللغات الغربية، لأّن الشعوب الغربية مختلفة عن حكوماتها، فبالتالي الكشف عن بشاعة دولة المحتلّ المدعومة خاصة من أميركا،وعن وجه فلسطين الحقيقي أن يخدم شعب الأرض المقدّسة.
References:
Bhabha, H. (1984). Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse. Discipleship, 28: 125 – 133.
Kristeva, J. (1982). Powers of Horror. Trans.Leon Roudiez. New York: Columbia U.
Said, E. (1994). Culture and Imperialism. New York: Vintage.
. (1979). Orientalism. New York: Vintage-Random.
Fanon, F. (2001). The wretched of the earth (C. Farrington, Trans.).
11-Said, Edward. Orientalism. London: Penguin, 1977.