الغبار
قصة قصيرة بقلم : منذر أبو حلتم
التعب بدأ يسري في ساعديه مثل الخدر.. والشمس مصرة على العبث معه.. فكلما وضع لوح الصاج في مواجهة الشمس ، تعود وتدور لتطل عليه من جديد ..بوجهها الملتهب . وضع المطرقة الثقيلة والأزميل على الأرض وحرك ذراعيه.. مد ذراعيه ثم ثناهما عدة مرات.. ونظر إلى حركة السيارات الكثيفة على الشارع الذي يبعد عنه أمتاراً قليلة.. وخلفه كانت ورشة البناء.. عمال يصعدون وينزلون حاملين حجارة البناء والطوب وصفائح الباطون .. قضبان حديدية مكومة هنا وهناك.. أخشاب ورمال وبراميل مياه ..
أمسك بالمطرقة والأزميل، ونظر إلى كومة الحجارة بجانبه .. حجارة مقصوصة بعناية، مستطيلة الشكل.. تنتصب بجانبه وكأنها الهرم.
وعاد يدق الحجارة .. يرفع يده وينزلها.. والوقت منشار ينشر ذراعيه.. والانحناء المستمر أثناء الجلوس على الأرض يسبب له ألماً مستمراً في أسفل الظهر .
– يعطيك العافيه يا أستاذ.
أحد العمال يحييه مبتسماً وهو يحمل صفيحة مليئة بالباطون على كتفه ويصعد سلماً خشبياً متأرجحاً .. يبتسم ويرد التحية .. ثم يعاود دق الحجر من جديد . كان يشعر بتعاطفهم معه ، تعاطف يصل إلى حدود الشفقه أحياناً .. وهو يبادلهم نفس الشعور .
كانوا يسألون بدهشة أثناء تناول الغداء :
– كيف يا أستاذ ؟ .. أنت جامعي وأستاذ متعلم .. كيف تعمل حجاراً ؟
وكان يسرح بنظره بعيداً ثم يحرك يده بلا مبالاة ويقول
أكل العيش يا شباب .. ! وكانوا يهزون رؤوسهم ويصمتون .
بعد تخرجه من الجامعه .. أمضى سنوات عديدة بلا عمل سوى الكتابة .. كان يكتب الشعر وينشر قصائده في الصحف والمجلات .. لكنه كان بلا عمل .. بحث طويلاً عن عمل .. أي عمل .. دونما فائدة .. وعندما علم أن قريبه المقاول يبحث عن شخص ليعمل حجاراً في ورشته الجديدة .. ذهب إليه وطلب منه بحماس أن يعمل .. وهاهو يعمل حجاراً منذ عشرة أيام ..
انتبه على صوت بجانبه :
– تفضل يا أستاذ .. شاي عجمي مضبوط .
شكره بشدة .. فكوب الشاي جاء في وقته .. وهو يريد أن يستجمع أفكاره استعداداً للمساء .. فهو مدعو لتقديم أمسية شعرية في مجمع النقابات المهنية .. في الساعة الثامنة مساء . أسند ظهره على حجر كبير .. و أمسك بكوب الشاي … انتبه على صوت وقوف سيارة بالقرب منه .. سيارة حديثة حمراء .. تقودها امرأة سمينة وبجانبها فتاة نحيفة ترتدي نظارة شمسية . مراقب المشروع أسرع راكضاً ومرحباً بهما .. ثم نزلت المرأة السمينة وبدأت تتفقد سير العمل ، بينما بقيت الفتاة في السيارة .
كان صوت المرأة السمينة مرتفعاً وهي تنتقد وتتذمر .. وتتهم العمال بالبطء .. كان صوتها يشبه صوت دجاجة هرمة ..وعندما أشارت إليه وهي تقول بعصبية : – انظر اليهم .. إنهم يمضون وقتهم في الجلوس في الظل وشرب الشاي ..! شعر بالغضب لكنه نظر إليها ببرود واستمر يشرب الشاي بلا مبالاة . الفتاة في السيارة كانت تنظر إليه .. كانت جميلة .. لكنه عندما ابتسم لها أشاحت بوجهها بتقزز .. وقبل أن تنطلق السيارة سمع المرأة السمينة تقول :- حسناً .. سنذهب لزيارتها بعد حفلة الشعر .!
حفلة الشعر ؟! هل تقصد أمسيته الشعرية هذا المساء ؟ وهل تهتم هذه الدجاجة السمينة بالشعر ..؟!
عندما ذهبت السيارة سأل المراقب عنها فأخبره أنها مالكة العمارة .. وعندما سأله عن سبب عصبيتها وغضبها .. لوح بيده قائلاً :
– لا تهتم .. كلهم هكذا !
تناول المطرقة والأزميل وضرب الحجر .. لكن الحجر تحطم عند الضربة الثالثه .. المراقب جاء وربت على كتفه ..
– هدئ أعصابك يا أستاذ .. احذر أن تؤذي نفسك
الوقت يمضي .. وعند الساعة الثانية كانت يده قد تحولت إلى جسم بلا إحساس .. تتحرك ارتفاعاً ونزولاً وقد تخدرت تماماً ..والألم يغرس مساميره الحادة في كتفه وأسفل ظهره . انتبه على أصوات العمال وهم ينادون بعضهم لتناول طعام الغداء .. جلس معهم وكان جائعاً .. كانوا يأكلون بشهية ..الطعام المكون من الخبز والسردين والبندورة وكميات كبيرة من البصل والفلفل . وكانوا يضحكون .. رغم التعب والغبار الذي يغطي ملامحهم .. ويتحدثون بحماسة عن كل شيء .. عن مشاريعهم للمستقبل .. عن الرسالة التي وصلت إلى أيوب المصري قبل يومين من خطيبته في مصر .. كان يستمع إليهم ويشعر بالفرح .. يشعر أنه واحد منهم .. لقد الهموه الكثير من القصائد .. قصائد حية ، نشرتها مجلات أدبية رفيعة .. وهو يحبهم ويعرف أنهم يحبونه .
عند الساعة الخامسة انتهى يوم العمل .. وها هم العمال يغسلون وجوههم في براميل المياه .. قام ونفض الغبار عن ثيابه وغسل وجهه مثلهم . العمال المغتربون ذهبوا إلى غرفتهم المؤقته التي بنوها بالطوب وألواح الصاج .. بينما وقف هو مع الآخرين بانتظار الباص المتوجه إلى وسط المدينه .
عندما وصل إلى البيت كان يشعر بالتعب والنعاس .. وعندما جاءت أمه لتخبره أن الماء أصبح ساخناً للاستحمام وجدته نائماً على وجهه على فرشة الأسفنج الملقاة على الأرض .. فتركته نائماً بعد أن غطته بغطاء خفيف .
كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف عندما استيقظ من نومه .. جلس في الفراش .. والألم يعتصر ظهره وذراعيه . ثم قام وغسل وجهه .. نظر في المرآة .. كان لا يزال بملابس العمل .. بنطلوناً وقميصاً من قماش الجينز الأزرق يغطيهما الغبار ..
ماذا سيرتدي للأمسية الشعرية ؟! تذكر الفتاة وهي تشيح بوجهها بتقزز .. هل ستأتي إلى أمسيته الشعرية ؟.. نظر إلى المرآة مجدداً .. سيذهب إلى الأمسية هكذا .. بملابسه هذه .. ملابس العمل ! تناول بعض الأوراق عن الطاولة .. وعندما هم بالخروج سمع صوت أمه : – كويت لك بنطلونك الرمادي ..
لكنه قال :- شكراً .. سأذهب هكذا ..
جاءت أمه حاملة البنطلون الرمادي وهي تقول بدهشة :- ولكن يا بني ..
لكنه قاطعها :- هم يريدون أن يسمعوا شعري .. فليشاهدوني على حقيقتي .. كم أنا ..!
عندما وصل إلى المجمع المهني .. كان عدد السيارات المتوقفه في ساحة المجمع كبيراً .. وعندما وصل إلى المدخل الزجاجي الواسع .. كان أحد موظفي الاستقبال يقف مرتدياً بدلة سوداء أنيقة .
هم بالدخول .. لكن الموظف الأنيق أوقفه بيده :
إلى أين يا أخ ؟
نظر إليه باستغراب وابتسم قائلاً :- كما ترى .. أنا داخل إلى المجمع !
– ممنوع ..!
– ممنوع ..؟ لماذا ؟
– الدخول بالبطاقات .. يوجد أمسية شعرية وسيحضر عدد من أصحاب المعالي والعطوفة .. اذهب .. اذهب الآن
توقفت سيارة فارهة .. ونزل منها رجل وامرأة .. ودخلا الباب الزجاجي بعد أن رسم الموظف الأنيق ابتسامة عريضة على وجهه اللامع .. وانحنى بطريقة مسرحية وهو يفتح لهما الباب .
هم بالدخول مرة أخرى لكن الموظف الأنيق دفعه بيده بعصبية قائلاً :
– قلنا لك ممنوع .. ألا تفهم ؟
شعر بالغضب .. ابتسم بمرارة :
– يا أخي .. أنا الشاعر .. و أنت تؤخر الأمسية ..!
لكن الموظف الأنيق لم يصدق .. ومن الداخل ارتفع صوت مذيع الحفل عبر مكبرات الصوت وهو يعتذر عن التأخير .. ويخبر الحضور بأن الشاعر سيصل في أية لحظة . تناول ورقة وكتب عليها :
” أنا ممنوع من الدخول ..! ” ثم كتب اسمه وتوقيعه وأعطاها للموظف .. وطلب منه أن يعطيها لمذيع الحفل . نظر الموظف الأنيق إلى الورقة وذهب ممتعضاً بعد أن أوصى موظفاً أنيقاً آخراً بمنعه من الدخول .!
نظر إلى وجوه الداخلين اللامعة وملابسهم الأنيقة .. رائحة عطورهم قوية لدرجة العطاس .. والباب الزجاجي ما زال مغلقاً في وجهه .. نظر إلى أوراق القصائد في يده .. مزقها وألقاها في سلة للمهملات .. وأدار وجهه وهمّ بالانصراف .. لكن صوتاً لاهثاً ناداه .. ويداً أمسكت كتفه بقوة
– إلى أين أنت ذاهب .. ؟ تعال .. تعال بسرعة ..
كان مذيع الحفل وبجانبه الموظف الأنيق ينظر بدهشة وقد ارتسمت على وجهه اللامع علامات الغباء وعدم الفهم . دخل والمذيع يجره جراً .. لكنه توقف فجأة ..
– ما هذا الذي ترتديه ؟ .. هل جننت ؟.. ادخل هذه الغرفة .. سأدبر لك بدلة مناسبة بسرعة ..!
– لا .. سأقدم أمسيتي هكذا ..
– ولكن ..؟
– قلت سأدخل هكذا .. أو سأنسحب ..!
مذيع الحفل يدخل القاعة المزدحمة .. ويمسك بالميكروفون .. أصوات الحضور انخفضت بالتدريج .. ثم انطلق صوت المذيع وهو يشد على الحروف .. ويمط نهايات الكلمات .. وكأنه يلقي بياناً هاماً ..أو نشرة أخبار خطيرة :
– أصحاب المعالي والعطوفة .. والسعادة .. أيها السيدات والسادة .. رموز الثقافة .. وشموعها المضاءة في سماء الوطن .. وصل الآن الشاعر …
القاعة ضجت بالتصفيق .. وعندما دخل إلى القاعة ، وصعد درجات المسرح القليلة .. سكت التصفيق فجأة .. وتعالت همهمات من كل الجهات . تناول الميكروفون .. ونظر إلى الحضور .. نظر يميناً وشمالاً .. لمحها .. تلك الفتاة ذات النظرة المتقززه ، كانت تشير إليه وتتحدث مع الدجاجة السمينة التي فتحت فمها بدهشة كبيرة .. فبدت مثل دجاجة حقيقية .. قال :
– اعتذر عن تأخري .. مع أنني وصلت في الوقت المناسب .. لكن حارس الباب منعني من الدخول .. لم أعرف السبب في البداية ثم تأكدت الآن أن السبب هو حضوري بثياب العمل ..!
الهمهمات تزداد ، لكنه تابع :
– نعم .. فأنا أعمل حجاراً .. عاملا .. أدق الحجارة .. الحجارة !..هل تعرفونها أيها السادة ؟ إنها تلك المكعبات الصلبة التي تبنى منها قصوركم الفارهة ..
الهمهمة تزداد .. وصيحات استنكار بدأت تصعد من عدة أمكنه .. والمذيع يشير إليه بيديه وعينيه ورأسه وقد تبلل وجهه المصفر بالعرق .. لكنه تابع :
– كنت قد أحضرت معي بعض القصائد .. التي كانت سترضي غروركم وتسليكم .. وتقنعكم بأنكم مثقفون .. ولكنني القيتها في سلة المهملات .. ومنذ اليوم سأكتب شعراً لا أعتقد أنه سيعجبكم .. ! والآن .. اعتذر لمن جاء حقاً ليسمع الشعر .. فأنا متعب جداً .. وحزين .. ويجب أن أنام لأتمكن من الاستيقاظ مبكراً للعمل .!
وضع الميكروفون على الطاولة .. ونزل الدرجات ببطء وسط موجة من الهمهمات الذاهلة .. ومن الصفوف الخلفية انطلق صوت تصفيق منفرد .. ثم انضم إليه صوت تصفيق آخر .. وآخر ، أيدٍ كثيرة بدأت تصفق .. أما في المقاعد الأمامية فالهمهمة كانت تزداد ارتفاعاً ..
عندما خرج من الباب الزجاجي .. لمح الموظف الأنيق .. كانت نظرة عدم الفهم ما زالت معلقة على وجهه اللامع .
على الرصيف تنفس بعمق .. وشعور بالضيق الحزين يملأ صدره .. لمح الباص قادماً من المنعطف ، ومع أنه كان يشعر برغبة في المشي وتأمل اللافتات المضيئة .. أو الجلوس على أحد المقاعد الخشبية الطويلة التي تتمدد تحت الأشجار على الرصيف الهادئ .. الذي تضيئه مصابيح الأعمدة الصفراء . إلا أنه أشار بيده إلى الباص عندما اقترب منه ..
عندما توقف الباص صعد الدرجات القليلة .. كان الباص ممتلئاً بالركاب .. وعدد منهم يقفون ممسكين بالقطع الجلدية المدلاة من السقف . وقف معهم .. رفع يديه وأمسك بالقطع الجلدية .. نظر من زجاج الباص الخلفي إلى مجمع النقابات المهنية وهو يبتعد شيئاً فشيئاً بنوافذه الكبيرة المضاءة .. تذكر الفتاة ذات النظرة المتقززة .. نظر إلى وجوه من حوله .. كانت وجوهاً متعبة .. تنهد بحرارة وابتسم ..