فكر

الهروب من الحياة

د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

انشغل كثير من المفكرين عبر التاريخ بقضية مهمة من قضايا الإنسانية وهي قضية الهروب من الحياة. ولعلنا جميعاً نلحظ الإنسان في مطلع حياته وقد بدأها بتفاؤل وإشراق، متخيلاً مستقبله وقد غمرته الزهور، مما يكسبه إحساساً بنشوة الحياة ومتعتها وجمالها. ولأن الحياة لا تستقيم على حال واحد سرعان ما تتغير وتستحيل حلاوتها مرارة، وهدوءها صخباً، ونقاء بحيرتها عكراً وضحالة، مما يلقي بتبعاته على الحالة النفسية للإنسان كما يرى علماء النفس. 

والواقع أن المشكلة ليست مشكلة ظروف اجتماعية وتغيرات حياتية تقليدية؛ وإنما المشكلة الحقيقية هي مشكلة فقدان الهدف من الحياة وعجز الإنسان عن تحديد سبب وجوده ومغزى حياته. ومن المعروف أن أشد ألوان الظروف الاجتماعية يمكن احتماله إذا ما توفر الهدف، كما هو الحال في الفقر وضيق ذات اليد، فهو لن يمنع ابتسامة رسمت على وجه إنسان حدد لنفسه هدفاً في هذه الحياة.

ولقد روى لنا الأديب الروسي الكبير “مكسيم جوركي” في قصة المتشرد “كانوفالوف” والذي كان يردد بشكل مستمر أنه لا يجد في داخله شيئاً يتشبث به ويستدعي وجوده في هذه الحياة، لقد ظل يبحث عن هذا الشيء ويتوق إليه، ولكنه لم يستطع العثور عليه؛ فآثر البعد عن الحياة وتجنب عيشها.

والعجيب أن “جوركي” كان يسأل نفسه لماذا جئت إلى هذه الدنيا القاتمة المزدحمة، ولمَ قُدر لأمي أن تنجبني في هذا العالم؟  وقد ظل يبحث عن سبب وجوده وعن هدف حياته؛ فقد كان يتمنى من أعماقه أن يفعل شيئاً يجعل أي إنسان في هذه الدنيا يحتاج إليه ويتطلع إلى وجوده. ولقد استمرت رحلة البحث عن إجابات لأسئلته دون طائل.

إن عدم العثور على هدف الحياة يقود إلى الهروب منها، وكذلك الذين يظنون أنهم قد حددوا أهدافهم، ثم اكتشفوا زيف هذه الأهداف، هؤلاء لا يختلفون عن الذين لم يحددون أهدافهم.  والذين يتخيلون أنهم قد استطاعوا تحديد أهدافهم لا يعلمون أن تحديد الهدف عملية شاقة للغاية ومن أعقد مهمات الحياة.

والأصعب من ذلك أن يظن بعض الناس أنهم قادرون على تغيير الحياة بسهولة ويسر، وشيئاً فشيئاً يكتشف هؤلاء أن الحياة لا تمكنهم من تحقيق أبسط أهدافهم. إنه طموح خاطئ يسبب الشقاء في الحياة. ولذلك يجب على الإنسان أن يرسم هدفاً محدداً ويسعى كادحاً لتحقيقه. وينسحب الأمر نفسه على المجتمع، والذي لابد له من هدف محدد، على أن يكون واضحاً وقابلاً للتحقيق، فبدون هذه الأهداف تفقد الحياة معناها ومغزاها، ويفقد الإنسان والمجتمع أسباب وجودهما وعوامل بقائهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى