جدارية الشعر السومرية.. تأملات في قصيدة (ما يشبه الحياة… ما يشبه السيرك) للشاعر علي الفواز
الناقد: ناظم ناصر القريشي
طالما أغرتنا الميثولوجيا بأساطيرها الميتافيزيقية، والشاعر علي حسن الفواز في قصيدة (ما يشبه الحياة… ما يشبه السيرك) اختار ما يتناغم مع الهواجس الميتافيزيقية وحلولها الواقعي، وأعادت إنتاجها وتوظيفها بوعي فائق للزمن، فابتكر نصّا يستلهم الأسطورة ويحيل إليها، فاستدعى الميدوزا وهي إحدى المسوخ الأسطورية في الميثولوجيا الإغريقية، كرمز يتواءم مع الواقع ويشير إلى ماهيته الحجرية، الميدوزا التي رسمها الكارافاجو بنظراتها المذهلة التي تملآها الدهشة في لحظاتها الأخيرة، لكن ميدوزا الفواز تعيد إنتاج نفسها كأفكار من حجر؛ وسنجد أن دلالة القصيدة تشير إلى فكرة تشكيل جدارية شعرية نحتاً ورسماً، أما أسلوبها وبنيتها التركيبية، ونظام الشكلي، فهو يشبه الصورة ثلاثية الأبعاد التي تتلخص في تعبيرها محاولة لرسم الواقع، وتجسيد العبث بأبعاد ديناميكية وبحركة مستمر لإنتاج المعنى، وهذا ما نستطيع أن طلق عليه تسمية التكعيبية في الشعر أُسْلُوبًا وفكراً وتقنياً فيقول الشاعر:
دخلوا أرضَ الحجرِ، فانكشفوا لميدوزا
صاروا ملوكاً بلا تيجان،
وثواراً بلا يافطات، وفقراءَ بلا أرصفة،
ميدوزا ساحرة المحو، عشيقة عوليس، لكنها عشيقة مسرور أيضا،
منذ البدء تجسد القصيدة في افتتاحيتها الواسعة الحلول والتحول، ولأنها كذلك تنهض فيها الاحتمالات متأرجحة و متمردة ووثـابة بقوة وصخب، لتحاكي سمفونية القدر لبتهوفن عندما يبدأ توترها الانفعالي في أوج التصاعد التراجيدي لفكرة القدر التي تمتد في الموسيقى لتبلغ ذروتها، فلها في الموسيقى أكثر ما لها في الكلمات، كأن مـا يحدث فيها يمكن أن يحدث مرارا ، والشاعر وضع الأفكار والموسيقى كفناً بصرياً في الكلمات، فكانت الموسيقى والكلمات تراود في افتتاحيتها جورنيكا بيكاسو عن أسرارها، فجعلنا الشاعر نلمس الموسيقى والكلمات في القصيدة ،كأنّ الموسيقى دخَلت في فكرتها ،حيث تبدأ من مقام النهاوند على سلم الدو الصغير بأوكتافها الثنائي ولحنها الايقاعي المناسب والانسيابي لهذا المقام، وبالتأكيد تزامنها مع الواقع الدرامي الصوري للقصيدة وهو يتشكل على شكل جدارية سومرية، وتجعله أقرب إلى لغة الشاعر فبضربات القدر المتتالية والمتوالية على سلمها الموسيقي ودورانها (في وحول) فكرتها، ثم تسترسل حتى تنبسط الموسيقى على الكلمات وتذوب في المعنى ، كما تدور فكرة الشاعر عن الذين دخلوا ، من هم وماهي أفكارهم وآمالهم، ،قبل الدخول ،وأثناء الدخول ، وعند التحول الى حجر ، ووجوههم المدهوشة التي يسكنها الرعب، وعيونهم الجاحظة وأفواههم الفاغرة بالنداء ، (وحتى تضيقُ الخطوةُ، وتتسع الرغبةُ) ،يقودنا هذا النص الذي تفرد بمتخيله الجمالي والمعرفي رغم الديستوبيا التي رافقته وتغلغلت في ثناياه ، الى تتعدد بؤر الرؤيا ، وهذه هي قدرت الشاعر على التعبير عن الفكرة في الكلمات المرسومة، نحتا كلوحات غير منجزة ستكتمل حين قراءتها، فيقول الشاعر:-
وحتى تضيقُ الخطوةُ، وتتسع الرغبةُ،
ويختنقُ الحالمون بالغرقِ والمعاني الواطئة…
لا أحتاجُ إلى أسطورةٍ لأعرفَ أخطاءهم،
الملوكُ/ الثوارُ/ الفقراءُ/ العاطلون عن اللذةِ،
كلُّهم نافرون للحروبِ الصغيرةِ والأخطاءِ الكبيرةِ،
نحن نرى الحركة في حضورها الشاهق ونسمع الأصوات في جدارية فائق حسن، ونرى ونشاهد الفعل الثوري في نصب الحرية لجواد سليم لو تمعنا النظر فيه سنجد أنه على شكل ختم أسطواني ابتكره السومريون أولا كسينوغرافيا ثم حولوه الى جداريات مشهدية، والفواز عبر رؤية جريئة جعلنا نرى تحول الفعل الشعري من الرومانسية الثورية الى الثورة الواقعية ، عبر انتقالات إخراجية للقصيدة من مشهد صوري واسع الى مشاهد آخر أكثر حركة للحياة والموت والعدم والفراغ تسير بالتواكب، والاندماج، مع الأفكار في الكلمات ، وكأن حضورها في الصور الشعرية والإيقاعية تتضافر معاً من أجل خلق صور مذهلة ديناميكية فريدة، حتى يمكنك التقاط أصوات الهتافات المتدفقة من القصيدة، والتي تحولت الى حجر فيقول الشاعر:-
حيثُ الخاسرون يذهبون إلى المقاهي والمباغي،
إذ لا حروب بيض ستُطهرهم من النكسة، والخديعة،
واستلابِ الملاجئ،
واللغةِ المشغولةِ بالأكاذيب
إن الشاعر يمتلك شغف لانهائي ويعرف كيف يقدم قصةانتقالية وسريعة الإيقاع بتحولاتها واحتمالاتها، إلى أن تصبح القصيدة أكثر اكتمالا بحضور فكرة العبث التي تسلطت واستولت على الحياة فيقول الشاعر: –
وحيث يذهب الرابحون إلى الوهمِ، والبياضِ، وكراسي يوجين يونسكو،
إذ يتنازلُ الملكُ عن قناعِهِ،
والثوري عن إشاعاته،
والفقيرُ عن أسمالِه..
حين مرّوا من هنا، أو هناك، لا فرقَ،
فالمسافةُ واحدةٌ، والطبقيون يتشابهون،
إن استمرارية الفعل الشعري في القصيدة يوحي أو يشير إلى لانهائية الفكرة، لذا لا نقول إن القصيدة اكتملت وأنجزت ما عليها، ولكن نقول إنها مستمرة استمرارية الحياة في مضارعها لذا ختم الشاعر قصيدته يقول:
طلّقوا نساءَهم الزنجياتِ بالثلاث، واختاروا
البياضَ المُسلّحَ لحروبٍ ناعمةٍ، أو لحياةٍ تشبهُ السيرك تماما..
في قصيدته نقلنا الفواز الى عالماً من الحركة والدهشة والغرابة والحياة التي تتحول الى حجر، بلغة كونية وتكوينية عميقة ومتسعة بذاتها واشتقاقاتها التأويلية حتى جعلنا نتساءل كيف وصل إلى هذا الحد من الإبداع…؟
كيف تمكن من التحدث عن «إيقاع الحياة» …؟ وتدفقه المتواصل في العبث، فهو يأخذ كل ما يأتي من الواقع، حتى يصبح ما يشبه الحياة… ما يشبه السيرك، وهذه هي قوة الاستفزاز في القصيدة، التي جعلتنا نشاهد وجوهنا في المشهد الخلفي لها
الشاعر علي الفواز ابهرنا بطريقته في استعمال اللغة وسعيه الى تحريك الكائنات والأشياء بتدفق وتلقائية دخل النص من خلال مخيلته الحرة الجامحة، بحيث يجعل المتلقي يشعر من خلالها بترافق حسي ملهم إذا يمكنه من الاتصال والاستجابة للنص، وأن الشاعر قادر على تمكين فعل الاختيار لديه، تبعاً لحاسته، ووعيه المعرفي؛ والنتيجة ليست مجرد قصيدة في كلمات، بل أفكاره وجيـزه وعميقه كاستعارات للحياة على شكل قصيدة تحمل معانيها فيها
النص:
ما يشبه الحياة… ما يشبه السيرك
دخلوا أرضَ الحجرِ، فانكشفوا لميدوزا
صاروا ملوكاً بلا تيجان،
وثواراً بلا يافطات، وفقراءَ بلا أرصفة،
ميدوزا ساحرة المحو، عشيقة عوليس، لكنها عشيقة مسرور أيضا،
كلاهما يتبادل الخصوبة والعقم،
حتى لا يورِث الجسدُ بعضه،
وحتى تضيقُ الخطوةُ، وتتسع الرغبةُ،
ويختنقُ الحالمون بالغرقِ والمعاني الواطئة…
لا أحتاجُ إلى أسطورةٍ لأعرفَ أخطاءهم،
الملوكُ/ الثوارُ/ الفقراءُ/ العاطلون عن اللذةِ،
كلُّهم نافرون للحروبِ الصغيرةِ والأخطاءِ الكبيرةِ،
إذ يمكرونَ، فيمكرَ الجسدُ بهم،
يتركُهم للشيخوخةِ،
للسهوِ،
العطبِ
الهذيان،
فراغِ الحجرِ،
حيثُ الخاسرون يذهبون إلى المقاهي والمباغي،
إذ لا حروب بيض ستُطهرهم من النكسة، والخديعة،
واستلابِ الملاجئ،
واللغةِ المشغولةِ بالأكاذيب
وحيث يذهب الرابحون إلى الوهمِ، والبياضِ، وكراسي يوجين يونسكو،
إذ يتنازلُ الملكُ عن قناعِهِ،
والثوري عن إشاعاته،
والفقيرُ عن أسمالِه..
حين مرّوا من هنا، أو هناك، لا فرقَ،
فالمسافةُ واحدةٌ، والطبقيون يتشابهون،
لا حاجةَ لهم للوضوحِ الفاضحِ، ولا للأسلحةِ الصدئةِ، ولا للوجوهِ الخادعة،
لقد رمموا الفراغَ بالفراغِ،
وتركوا اللغةَ للرمادِ،
والطاولاتِ لخرائطِ الرملِ،
والأولادَ لأخطاءِ التلفزيون، وكوميديا المذيعِ الأخرس،
يضحكون ملء الشاشة، يكتبون قصصاً للحيوان،
يتذكرون جورج أرويل، وهو يعلّم حيواناتِه الاعتراف.
هكذا هُمُ
الآخرون،
الذين اشتروا عيون ميدوزا، وسيف مسرور،
بدّلوا الجحيمَ بجغرافيا الثلج،
طلّقوا نساءَهم الزنجياتِ بالثلاث، واختاروا
البياضَ المُسلّحَ لحروبٍ ناعمةٍ، أو لحياةٍ تشبهُ السيرك تماما..