المفرزة التي لاحقت المشاهير (11)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان

وفي اليوم التالي ذهبت أبحث عن ” الهافانا “

كانت واجهة ” الهافانا ” واسعة، وكان الماغوط يجلس خلف طاولة ووجهه باتجاه الخارج . وأنا أتصبب عرقاً من شدة الخجل والإرتباك قبل الدخول. لكن جلوسه على كرسي قرب باب المقهى، اختصر كل الحرج الذي سيصيبني لو بحثتُ عن مكانه. لم يكن المقهى كبيرا. كانت رائحة الدخان تملأ المتسع . ولم ألمح أية امرأة . كانت تفوح من الماغوط رائحة العرق. لكن لم يكن على الطاولة أثر  للمشروب .قلت له بنبرة غاضبة : (لوين جايبني كلهن سكرجية). ضحك وقال: لا.. سنصعد للأعلى…هناك مكان للعوائل. صعدنا للطابق العلوي. وضعتُ محفظتي على الطاولة. قال: محفظتك كبيرة. أنت لا تحملين حقائب كحقائب النساء. .سحب المحفظة قبل أن أجيبه وقال:

ـ ماذا أحضرتِ لي معك ؟ قلت: أحضرتُ (كتاب الأصول والمذاهب في فتح الحقائب). ضحك وقال أنت سريعة البديهة. وذكية في التخلص من المواقف الحرجة. في حقيقة الأمر كنت أخاف أن يفتح حقيبتي لأنني خشيت أن يرى بقع الحبر والأوساخ في داخلها. من بقايا أقلام مبرية ومناديل ورقية ملطخة بالكحل وبقايا عطر زيتي، والقليل من النقود، وقصَّاصة أظافر، وبطاقة دعوة مفتوحة لحضور حفل افتتاح فيلم التقرير، بطولة الفنانة رغدة والفنان دريد اللحام. مع نسخة من سيناريو الفيلم مهداة لي ممهورة بتوقيع الفنان دريد. ورسالة من مراهق.مليئة بالأخطاء النحوية .

ثم استرسل: أتعلمين لقد قالت لي سنية: إنك ذكية. لم أكن أتوقع أنه يتحدث عن زوجته المرحومة .

سألته:

ـ من سنية ؟ قال :

ـ زوجتي المرحومة

ضحكتُ وقلتُ:

ـ متى قالت ذلك؟ هل تعمل في تحضير الأرواح؟

ـ لا ولكن سنية مازالت حاضرة ، وطلبت أن تراكِ .

ـ لا … (دخيْلَكْ ..) لاأريد أن أرى أحداً.  ماهذه الاستفقادة ؟

كانت الجدية تبدو على وجهه ولم يكن يبتسم وكأنه رأى سنية حقاً .

.أنتَ لن تنسى سنية أبدا . فلكل إنسان أسطورته وسنية هي أسطورتَك والشعر هو معجزتَك ـ

سنية هي التي كانت تدفعني للكتابة. فحين كنت سجيناً، وحين كنتُ أختبئ في بيت ذي سقف واطئ. كانت تُحضِر لي الكتب هي وزكريا تامر. وحين كتبتُ قصيدة ” العصفور الأحدب ” قالت: هذه مسرحية بفصول، فهي كانت تدرس الآداب، وأنا لم أكن أعرف شروط المسرحية، فقد كنت ولا زلت أعتبر نفسي شاعراً في كل ما أكتب. ولم أتخل يوما عن الشعر . لقد تعلمتُ من سنية صالح الكثير الكثير .

– أنتَ تستحضر سنية اليوم لأنك تشعر بتأنيب الضمير. وتذكَّرْتَها لأنك تشعر بأنك بدأت تخون ذلك الإحساس الذي رافقك منذ وفاتها . ـ استحضرتُها لأنها تشبهك . فهي امرأة تفيض حنانا وإنسانية وجمالا”. حياتي بدونها لم تعد تعادل عود ثقاب .أشعل سيجارة ثانية واغرورقت عيناه بالدموع . لم أكن أصدق أن الماغوط بكل عظمته سيبكي أمامي كالطفل . كان يمكن أن أسنده ليبكي . لكنني لا أشبه سنية . فهي الأول والآخر والظاهر والباطن بالنسبة له .

 كان ” الماغوط” ثملاً وحزيناً للغاية؛ ولديه رغبة جامحة للحديث عن سنية. وقد احترمت تلك الرغبة ، ولم أشأ أن أقطعها في حديث ما مهما كانت أهميته .بل بزغت لدي لوهلة ما رغبة لأن أضمه إلى صدري ليبكي هناك . لكن ماكان يثير استغرابي أن وفاة سنية لم يكن حديث  العهد. فماالذي هيَّج أشجانه وذكرياته اليوم ؟

لم يطل استغرابي إذ قطَعَتْه امرأة أربعينية، توجهت إليه وهي تغادر المقهى، وعزَّتْه بوفاة والدته. الذي لم أكن أعلم به .وقد أحسستُ أنه اختصر كل الحنان الذي فقده منذ وفاة شقيقته ليلى إثر حمى نفاس وأمه ناهدة إثر مرض عضال، في الحديث عن سنية التي كانت بمثابة الصديقة والزوجة والأخت والأم والصخرة التي يصب عليها جام غضبه وحزنه .

لم أكن أحب التعازي، ولا المباركات، لأنني أعتبر أن الحزن والفرح أمران شخصيان . فإن فرحت أو حزنت لأحد فللمجاملة .

بالإضافة إلى أنني أرى أن مَوْتَ من نحب ليس فجيعة بل صفعة لوجودنا الذي كلما زال منه وجهاً نحبه، بات ذلك الوجود ناقصاً ، لأن الأحِبة يجعلون  الإحساس بوجودنا متيناً . وإلا لما شعر الآباء بالاكتئاب لدى زواج أبنائهم رغم انهم ينتظرون يوم فرحهم بالدقائق . فكلما كنَّا محاطين بمن نحب وما نحب كان إحساسنا بالاغتراب أقل . لذا نجد الكثيرين بعد فقدهم للأصدقاء والأعزاء يتعلقون بحيواناتهم وبأشيائهم (أثاث منازلهم أحذيتهم ملابس اولادهم ) .فهزة الفقد لايمكن تعويضها إلا بوجود آخر يحل محلهم ، ويمنحنا ذات الدفء والحب والحنان والطمأنينة ..

لذا كثيراً ما كنتُ أتوقف ذهنياً أمام عبارات التعزية .فهل أقول له: اللهم أبدلها داراً خيراً من دارها وأهلاً خيراً من أهلها ..ومن أخبرني أن المتوفاة ترغب في ذلك؟ أم  أقول له: اللهم  أوسع مدخلها، وأنا أعلم أنها ستدخل تلك الحفرة الضيقة ..أم أقول عظَّم الله أجركم ..ومن يضمن أن الله سيستجيب لندائي، ولماذا يعظِّم أجرهم مادام الجميع يتساوون في تلك الحفرة التي سندخلها جميعنا.. الغني والفقير المصلح والضال. أم  أقول له: البقية في حياتك؟ ماهذه الأنانية؟ هل أقول إذاً: (إن شاء الله تسلم)؟ ومن يسلم من الموت؟ ذلك المارد الجبار والزورق الذي يحمل الغالب والمغلوب معاً٠ في معرض تلك التساؤلات المتراكمة تذكرت شقيقي الذي يكره المجاملات مثلي٠ وحدثَ أن تُوِفي عم خطيبته ٠ وارتبك أثناء تعزية والدها٠ فبدل أن يقول له: (انشالله بتسلم )قال له: (يسلملي ربك)٠

 بعد أن غادرت السيدة، قلت: أنت غريب حتى في حزنك٠ إنها إرادة الله وإرادة الله لاتقابل بالتمرد والعصيان، بل بالطاعة والامتنان.قال: جل ما أخشاه أن يكون الله أمياً.

 قلت سبحان من قهرنا بالموت والفناء والذي لايمكننا جعله يستثني أحداً منا أبداً..

قال: لماذا علي أن أطيع الله؟ ألأنه خلقني؟ هل كنت أوقظه بسبابتي كي يخلقني؟

 تركَتْ تلك الكلمات رعشة في بدني. لأن مثل تلك الأسئلة كانت تثير حفيظتي، حيث أنني أعيش تلك التساؤلات دوماً، حول سر الخلق والوجود، والغاية من خلقنا، ثم إماتتنا ٠كنت أقول لنفسي دوماً ؟وأردد ماسبقني به المفكرون : ” هل خزن الله تلك الأسئلة في خلايانا قبل خلقنا لنثابر في البحث الذي يقودنا للإيمان ٠وماذا لو نظرنا للموضوع من زاوية أخرى؟ أليست الأفكار التي تراودنا هي نتاج وعينا الذي يستمد صوره من الواقع المادي؟ ٠ ربما تحمل الحياة أشياء ليست ذات معنى، وإسقاط انطباعاتنا عليها يجعلها ذات معنى٠ فاللون الأسود مثلا ألسنا نحن من منحناه .معنى الحزن؟ ٠ وما المانع بأن نرتديه بالزفاف؟ ” كنت دوما أحاول الهرب من تلك التساؤلات٠ وأتذكر رائد الفضاء ” غاغارين ” عندما عاد من الفضاء وسأله البابا: هل رأيت الله أثناء دورانك حول الأرض؟ أجابه: لا قال: لا تقل ذلك، فالشعوب ليست مهيأة للكفر. وحين سأله” خروشوف ” هل رأيت الله؟ أجاب نعم . فقال: لا تقل ذلك فالشعوب ليست مهيأة للإيمان. وأنا في حقيقة الأمر لم أكن مهيأة للكفر. لذا أجبته: ربما خلقك ليخلق من قصائدك المحملة بالجمال والمواقف النبيلة معجزة ومعادلة للموت. فشعرك حياة بحد ذاته٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى