أدب

كاتيوشا.. قذيفة واحدة، مدفع وحيد، بطلة وحيدة

د. منى قابل
بحدث واحد أطلق وحيد الطويلة(كاتيوشا)ته لتصيب قلب كل من قرأها، فعلها منذ الجملة الافتتاحية و أمسك بأذن قلبي ولم يتركها حتى نهاية الصفحة الأخيرة.

انتهت الرواية، ولم تنته الحالة الشعورية التي عشتها معها. وكأنه قسم شطيرة العالم لنصفين، واقع مرير وحلم جميل.

عشت مشاعر البطلة وتقمصتها، عشتها بين يقظة الحلم وغفوة اليقظة.كدت أشعر بحرارة غليان الماء في عينيها بين أحداقي، أرتجف بفعل صقيع روحها. أكاد أسمع أزيز تكسر جدران قلبها بأذني .حين تفتتها أصداء أصوات العهود الكاذبة ب(الأبدية).
أسمعها جلية في جمل السرد المتراصة كلآلئ غاية في البلاغة، رغم اختناق جيد البطلة بخيوطها وتساقط دموعها على هيئة نقاط أسفل الحروف وأعلاها.

وحين أخرج منها وأعود للواقع أشاهدها وهي تبتلع لقيمات الغصة فيزداد وزن وجعها ، أتابعها عن كثب وهي تقضي النهارات بين ضجيج علامات الاستفهام وظلالها، تطلب من هذه أن تصمت ومن تلك أن تجلس في ركن وتكف عن الإلحاح لثوان،بلا جدوى. ألمحها وهي تحاول أن تنهي تلك المعارك، فترج جمجمتها لتفور أفكارها الحارقة كزجاجة صودا لأغرق أنا في دموعي. أشفق عليها بعد أن صار لا عمل لها سوى الاجتهاد في البحث عن شريكة زوجها في الجريمة، نعم، إنها جريمة قتل أبشع ما فيها أن القانون لا يعاقب من يرتكبها، رغم اكتمال أركانها، الفاعل معترف، الشريك على قيد الحياة ، لكن البطلة لم ترد يوما أن تؤدي دورين في الوقت ذاته (المجني عليه، والمحقق).

      منحني (وحيد الطويلة) مفهوما أكثر وضوحا، أضفته لمعجمي اللغوي، حين فسر بأسلوبه العذب ولغته الملهمة هذه الجملة الشهيرة التي نصف بها تغلغل الحب فينا ورسوخ وتده في أعماقنا، (بموت فيك) نطلقها مجازا، لكني لأول مرة أراها تتجسد أمامي، بالفعل ماتت في حدوده، تصورت أنه الحياة، هذه خطيئتها التي عاقبت نفسها عليها بكل ما فعلته، لم تكن تعاقبه، فقد هرب لبرزخ آخر، وسقطت هي في جحيم الخذلان المستعر.

      كيف تصنع من العادي دهشة كبرى، وتلقي ببذور الشغف حول القارئ لتنمو داخله وتحضه على متابعة القراءة حتى الكلمة الأخيرة دون أن يلتقط أنفاسه؟ كاتيوشا تجيب على هذا السؤال المحوري في الأدب.

أهم ما ميز رحلة متابعة آثار إطلاق القذيفة من الناحية النفسية والوجدانية، هو نجاح الكاتب في سبر أغوار النفس البشرية وآلامها والصراعات التي تجلت للقارئ وكأنه يشاطر البطلة كل آهة حارة تصدرها روحها.
يظهر ذلك في وصف بارع لكل أعراض الإجهاد النفسي بعد الصدمة أو ما عرف اصطلاحا ب(التروما).
الكوابيس التي تطارد البطلة، وصف شعورها بالكرب الشديد والألم عند تذكر الحدث​ (اعتراف الزوج بحب امرأة أخرى وإضافة حد مشحوذ لعقدة المشنقة بتذييله باعتراف أبشع بأنها صديقة زوجته).


كما أشار إلى الأعراض الجسدية الناجمة عن القلق مثل العصبيّة في مشهد الهجوم على إحدى صديقاتها ، حتى كادت تخنقها.
براعته في بث خوف البطلة (مشيرة) في عروق اللغة والصور التي استخدمها، واتضح هذا جليا في مشهدية رائعة للزوجة والصديقة الخائنة داخل المنزل – في مطبخها – طهي وحيد الطويلة طبق الصراع الإنساني الداخلي على نار هادئة جدا .

       لم أمل ثانية، رغم أني رأيت في بعض المونولوجات إطالة.

    حري بالأدب أن يغوص في أعماقنا، لنرى من أنفسنا ما لا تعكسه مرايانا.
إنها رواية تستحق الوقت، تخاطب القلب بلين القول بينما تصفع العقل بمنتهى القسوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى