أدب

المجد المفقود

إيناس أصفري| سورية – أمريكا

إحدى أهمِّ خساراتِ الاغتراب، هي أن تخسرَ مكتبتكَ التي أسستها كتابًا إثرَ كتاب، وعليها مدوناتك، وخلاصاتٌ قادتك إليها السطور. لحظاتُك التي اندَرَجت مع الصفحاتِ بحرارتها، بزخمِها، بدمعها أحيانًا وابتساماتها أحيانًا، وكلُّ اختلاطات الشّعورِ وتقلُّباتِ الفكر. كيف لكَ أن تحملَ هذا معك؟ وكيف لك من دونه ألا تشعرَ بالوحدةِ وألمِ الفراق، لاسيّما حين تكتشفُ أنَّ البلادَ التي سافرت إليها لا تحتوي(إلا فيما ندرَ) في مكتباتها شيئًا من إرثِ بلادك ، ولا أثرًا من لغتك التي نطقتَ بها أوّل ما نطقتْ شفتاك.


هل الأسواقُ الالكترونية والمعارضُ خلفَ الشاشاتِ ستمنحُك فرصةَ تقليبِ الكتاب قبل شرائه، أو لمس أوراقه لتمييز نبضها؟ هل ستطلِّعُ على الفهارسِ بحثًا عن ضالتك فيها؟
لا أعلمُ إذا كنتُ (دقّة قديمة، دقّة بتعبير أهلِ حلب تعني طبعة أو نُسخة) لا أستمتعُ بنصٍّ إلا إذا طالته حواسي جميعًا، أُحدّقُ في السطور وأشتمُّ عبق الورق، أسمعُ رنين الصفحات وأتقصّد تقليبها بين يديّ مرارًا، وألمسُ الورق حتى أنّني أتذوّقُ طعمه حين يقودُني اللاشعورُ لتغميسِ سبّابتي في رضابي لأقلّبَ الصفحاتِ على عجلةٍ من النص الذي يشدّني للجري والوثب حتى نهاية قطرة حبرٍ فيه.
تعيدُني ذاكرتي لكُتبي الجامعيّة، مراجعي النحويّة، ملخصاتي الدراسيّة، دواوينُ شعرٍ عليها إمضاءُ شعرائها، وقصص ورواياتٍ استهوتني عناوينُها، وأسماءُ مؤلفيها.. عشتُ معهم جميعًا، وتنفستُ الهواء الذي نفثوه بين الكلماتِ.. وما زال شريطٌ من عباراتٍ رسَخَت يتردّدُ في دواخلي.
اليوم لفحتني موجةُ ذكرى دافئة النسيم، حين فوجئت بحقيبة صغيرة تنتظرني على الطاولة، في حصّة العربيّة، بعد عودةِ طالبتيّ من رحلتهما إلى فلسطين، تضمُّ خمسةَ كتبٍ محمولةً من هناك.
عناوينُ وأسماءُ لم يعرفنَ أنها تعني لي الكثير.. كأنّني بها استعدتُ مجدَ مكتبتي المفقود، واستعدتُ بعضًا من فرحٍ خاص، يُشبه كلَّ الأمكنةِ الحبيبةِ في بلادٍ عتيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى