بقلم: عبير داغر اسبر
“Maybe it’s not cancer!”
قالها لي الطبيب المونتريالي بعدما عاين كتلة مشبوهة التقطتها في ثديي الأيمن قبل شهرين، هكذا بانعدام للحساسية، أتاحه الاستخدام الإكراهي للغة الإنجليزية، أدخل الطبيب ببضع كلمات لفظة “سرطان” باعتيادية بليدة. لربما فكّر أن الفرنسية التي لا أتقنها كانت لتكون خيارًا لغويًا أكثر إنسانية من برودة الإعلان غير المحبّب للكلمة الملعونة. إلا أنه تابع الشرح بلغة لا تقل اقتضابًا ولا برودة وأنا أخبر نفسي: “So, maybe it’s not cancer then “
إلا أني بالرغم من إعلانه ذاك لم أستطع إلا التفكير بالاحتمال الآخر: ماذا لو كان “كانسِر” فعلًا؟ هل سأحصل الآن على ثديين جديدين؟ لطالما أردت الحصول على ثديين جديدين، مع قامة لم تتجاوز يومًا الـ157 سنتيمترًا احتل صدري مساحة كبيرة غير مرغوبة في جسد ضئيل، وظهر كشيء فجٍ طاغٍ على دقة خصري، فقد كان واضحًا في شكل مزعج لم تنفع معه محاولاتي الدائمة لاخفائه تحت ملابسي الفضفاضة، إذ لم يكن ناهدًا كما ينبغي، ولا كاملًا مفعمًا بالحياة، كان مهملًا ومسببًا للتعاسة، ومخبأ تحت طبقات من ملابس سميكة مما زاد دائمًا من تكور قامتي المائلة للامتلاء.
كانت لي حكاية طويلة معه، فلم أستطع تقبل القصائد عن الأثداء الناهدة والخيالات الشيفونية وانزلاقات الحرير على الرغبات المخفية ككنوز، لم أستطع التماهي مع تكوّر البرتقال في نصوص الشعراء ولا تنهّد الشهوة، وقساوة الليمون في بيارات الجسد، وامتلاء طراوة الثدي المشتهى بحليب الشبق في القصائد.
كل تلك الأدبيات لم تكتب لي، ولم أستطع أن أكونها ولا أن يطرب لها جسدي المرتبك بتلك الأنوثة الطافحة بشكل زائد على الحد. ثرت دائمًا على صورتي في المرايا، وبهذايانات درويشية عن صورة الجميلة وانتحار العاشق، قمت بمحاولات عدة للتخلص من الحجم الزائد عبر جراحات وتشطيبات جزارين، لكنها كلها لم تتم، لم أستطع أن أتجرأ وأضع ثديي تحت شفرات حادة وأنهي ما فعلته الطبيعة. جبنت عن الفعل، كهاملِت بلا إيمان كافٍ تخليت عن الفعل، ومثله تمامًا لم تبق لي سوى نقمة أتاحت لصدري أن يثور على سنوات الرفض والنفور والنكران ويقول: أنا أيضًا لا أحب أن أرافقكِ. أراقب وجهي من دون حب وأتساءل، ما حكايتنا مع الأجساد يا دنيتي أنتِ، يا عبيري، ما حكايتنا مع صورنا وانعكاسات سواد حدقاتنا في مرايا متشظية بألف وجه، ما حكايتنا مع نزوف الأرحام والتكتلات الصلبة القاهرة في صدورنا الندية المختبئة كأرانب مرتعدة. يبدو هذا الحديث إقصائيًا، حديثًا أنثويًا خالصًا، يبدو مقاربة متشابكة الاطراف لحكاية لا مكان للرجال فيها، فقصتهم أوضح، وأقل ألمًا وإمتاعًا ربما. يذهب الرجال إلى الحرب، ويحبوننا فقط. وما بين تلك المسافة بين الحب والحرب يعمّرون المدن، ويرصفون الطرق، يطوّعون الحيوانات ويركبون فرس الليل ويغادرون. يرمون للريح ما يعلق بأجسادهم من ذكريات وقصص وأوجاع، فيظلون أحرارًا، أما نحن نسوة هذا الكون، فنظل كالعبيد المحررين، نلتصق بذاكراتنا كشجرة، نلمم الحكايا، نحفظ تواريخ الولادات ونربطها برعود حزيران، وحصاد القمح على البيادر البعيدة، نربطها بأعياد البربارة، والصعود الكبير إلى الهيكل المنشق، نربط الولادات بنزف الألم لسيدتنا العذراء أم المخلص، بتواريخ متغيرة لا تعني غيرنا نحن الشاهدات على انهيارات العروش، وتداول القساوة وامتلاك العبيد. نظل هناك بالقرب من الحدث، على الهامش، حيث يُرمى كل ما لا يهم من تاريخ البشرية، هناك على حوافي التاريخ. نبقى في مكان ثابت، نمتص القهر كاسفنجة لا ترتوي، نمتص الفقد، النزوف والأسرار، يحمل جسدنا ثقلَ الحكاية من أولها، فتطول شعورنا، وتٌنحت خصورنا، وتتكحل أعيننا بسواد الفجيعة ونحن ندفن خٌدوجنا الكثر، وتنتفخ بريح الليل أثداؤنا الدافئة لكثرة التنهدات والانتظار.
يحمل جسدنا تاريخَنا السرّي، فنصبح نساءً على مهلٍ. هذا من حصل لي، وأنا أتلقى طلقات الألم، بينما كان الطبيب المختص يحاول أن يأخذ خزعة مضاعفة من كتلة صدري المشبوهة. هناك على طاولة مسطحة، في غرفة باردة أمام شاشتي كمبيوتر، ويد تثبت ذراعي بقوة فوق رأسي حتى لا أخرب العملية بصراخي أو بانتفاضات الألم، أصبحت أمرأة أخيرًا، أمرأة تتألم من أنوثتها، حيث ترك ثديها وظيفته الجمالية، وأصبح مادة للتشريح والدرس، وحلمتها التي حملت إرث اللذة والإرضاع، أصبحت هدف لغرزات من إبر تضرب هناك في العمق طلقات لا تتوقف، عمق الألم والأنوثة، لعل تلك الحلمة المخاتلة تعترف تحت التعذيب بأسرارها، ولربما تفصح عن سبب تعطيلها دوران الدم، وسبب حَرنها وامتناعها عن الصهيل كمهرة فتية. نعم تحزن أجسادنا فتتوقف عن ضخ الدم، تحرن، وتخاف أيضًا… ينقسم تاريخي الشخصي بين عمرَين، عمر لم أخَف فيه مرة، وعمر أمضيته مرتعدة من خفقة مرتجلة لورقة خريف. لم يكن التقدم في السن ما قسّم العمرين، بل ذاك العُري المكاني الذي رُميت فيه وسمّاه الآخرون غربة. نعم نحن لا نفعل شيئًا منذ ابتعادنا عن بلادنا سوى فقدان كل ما يبث الحرارة في الروح، فقد خلعنا ثيابنا وقوتنا وقصّت الحرب شعورنا كشمشون مغرّر به. وعلى أبواب البلاد الجديدة، قهرتنا الحقيقة، قهرنا العُري الهائل ولم نستطع السيطرة على الخجل، فخجلنا وخفنا، وربما أنا وحدي مَن خجلت وخافت، ربما تغطّى الآخرون بأبنائهم، بضحكات أحفادهم، ببيوتهم الجديدة، باللغات التي تعلموها وبوظائفهم ذات الدخل اللائق، ربما أنا وحدي من تُركت نهبَ السؤال. ربما أنا وحدي من خلعت ملابسها وروحها كاملة وتعرّت، وظلت هكذا ينكسر روحها الهش مع كل نوتة موسيقى تسمعها من بلدها البعيد، مع كل سلام من غريب يشبه وجهها، مع كل تحدٍ بائس يجعلها تتعلم الفرنسية من جديد. عدت لتعلم الفرنسية مرة أخرى، للمرة الألف ها أنا أبدأ بالتعلم من الأول. أكره أستاذنا الذي أتى من إيران، أكره فجاجته التي تذكرني بمُوجِّه الفتوّة في مدرستي القديمة، أكره عدم حساسيته وعدم تصديقه لمظلوميات اللاجئين التي نحملها كجلد احتياطي. فهو مهاجر مثلنا، لا تنطلي عليه بكائياتنا، ولا استدعاؤنا تاريخنا السابق ولا دموعنا التي تنهمر بلا سبب، ويعلم أن علينا الدفع بصخرتنا السيزيفية كما فعل هو من قبل، وأن نحمل صليب جلجلتنا في طريق طويل. أكره أستاذ اللغة الفرنسية لأنه مبدع، وعادل، ومُلهَم، أكرهه لأنه لم يتساهل مع تقصيري في حفظ تصاريف الأفعال، ولأنه طلب مني أن أنسخ تصريف فعل ouvrir بالماضي خمس مرات، وتفرج علي بتشفٍ وأنا أفعل ما يريد كطفلة تشرق بدموعها وهي في السابعة، ومع هذا لم يتسامح عندما نسيت، لغضبي، أن أضع a في كل نسخة مع هو أو هي! أكرهه لأنه غير قابل للابتزاز، ولا يفصح عن روح متعاطفة، لا يحب أن يكون حنونًا ولا متفهمًا، لا يحب الضعفاء، ويضطهد الكسالى ويهزأ بهم! اسمه كأسمائنا، يحمل اسمنا العربي وتاريخ منطقتنا، يشاركنا في تلك التركة البشعة من فظاظة وعلاقات سلطوية ملتوية، وأكرهه لأنّي لا أستطيع غلب حجته ولا منطقه السليمين.
الحقيقة أني لا أكرهه، بل يخيفني فحسب، أرتعد من إمساكه بتلك الحقائق التي لا شيء يرعبني فيها إلا مدى حقيقيتها. نعم أنا هنا، أقارب الخمسين وأقف وحيدة في مكاني الجديد، مرتبكة بلا سلاح ولا ملابس للتخفي، بلا مكياج حتى لوجه بهلوان، أخاف جهلي، والتعب المزمن الذي لا يغادر عقلي ويجبرني على تناول حبوب منومة بالخفاء، أخاف اكتشافي الأنوثة متأخرة، أخاف كتلة ثديي البلهاء الصمّاء لأنني لا أقوى على المرض ولا على البدايات. أخاف معرفتي اليقينية بأنني لن أصبح أحدًا غير تلك البنت التي لن تستطيع البدء من جديد، حتى لو تعلمت كل تصاريف الأفعال في كل لغات العالم.
2020
كتبت النص بصيغية الأنا لجعله أكثر إمتاعا لا أكثر.. أنا بخير والتجربة متخيلة