لقد آلمني أن حبيبتي تُسْرِقُني القصيدة

فراس حج محمد | فلسطين

في طفرة المشاعر الجياشة تقودني حماقتي لأرسل، كالعادة، قصيدة لتلك المرأة التي أحبها، أو هكذا أوهم نفسي، أو ربما هي أوهمتني بذلك، ولا أدري إن كان هناك احتمال رابع لهذه الحالة البائسة التي أعيشها منذ تسرّبت إلى دمي وفكري وخلايا حياتي. ومعي كثير من العشاق مثلي يعانون مما أعاني، المهم في الأمر أنني في أعلى حالات الوهم من العشق والشعر معاً أرسل لتلك المرأة قصيدة، فرحا مسرورا، فيأتي ردها السريع على تلك القصيدة مغلوطا سيئا، فقد كتبتْ رسالتها بعنف عاطفي واضح:

“بائعات الهوى ينثرهن عطر مجونهن على الطرقات

يدلقن شهوتهن على المارّة

يستوين مع اللواتي في خدورهن يتعشقن رائحة الحبيب ويسكرن من مجرد الفكرة”.

كأنها أرادت أن تقول أنْ لستُ من هؤلاء أيها المجنون، وهي بالفعل ليست منهنّ. كانت القصيدة التي أرسلتُها تتعلق بالشوق وتتوق لها، إذ “ما حاجتي لامرأة لم تقضمني التفاح ولم تلعب معي”، واللعب الذي كنت أقصده لعب الحبيبة مع الحبيب اللعب المفضي للنشوة واللذة، لا لعب المراوغة واللعب بالأعصاب كما يحدث بيننا في العادة، إذ هي كثيرا ما تجيد اللعب بأعصابي، فقد اعتادته زمنا طويلا حتى أتقنته، ووجدت عاشقا غِرّاً جهولا، فتدرّبت جيدا، حتى غدت بي لعوبة محترفة.

تلك المرأة التي أتوهّم أنها حبيبتي وشاعرتي وملهمتي تختزن قصيدتي أربعة أشهر في بريدها الإلكتروني قبل أن تعود لي بقصيدة على منوالها، فأجبتها أن القصيدة مسروقة عن قصيدتي تلك. آلمني أن حبيبتي تسرق قصيدتي، وتخفيها بقصيدة لها، وليس عندها الجرأة لتقول، كما كانت تقول في السابق، إن هذه القصيدة من وحي قصيدة لي، وتسمي اسمي فأشعر بالنشوة. أبلغها أن القصيدة مسروقة عن قصيدة لي كتبتها لها في لحظة شوق مجنون لوصالها هي، وطردا لكثيرات يحُمن حولي، أو أحوم أنا حولهن، بصورهنّ الطافحة باللذة المكشوفة، نساء ذات صدور وأفخاد مكتنزة، تفوح من صورهنّ الشهوة.

تضحك كعادتها ضحكتها الصفراوية بعد أن وصفت نصها بأنه “نص متهور منتفض على نصك”. لست أدري هل كانت تردّ على تلك القصيدة أم تتحرّش شعرياً بقصيدة “عن النهود في حجرها الصحي”، فقد بعثتْها ردًّا على رسالة قصيدة “عن النهود في حجرها الصحي”، لكن

النص نفسه محاكاة واضحة للنص الأول، ولأنها مجيدة في حرق الأعصاب وبارعة فيه تريد خلط الأوراق واختلاطها. هكذا أفكّر فيها عندما تريد أن تلعب معي لعبة لغوية شعرية من هذا النوع، وتعبّئ من دمي بعض قصائدها. أتخيلها الآن تمصّ دمي وتعيد حقنه في نصوصها. إنها هادئة تماما وهي تفعل ذلك.

المشكلة ليست هنا بكل تأكيد، بل في أنها تسرق نصوصي وتعيد إنتاجها على بعد مني وبهدوء غير عاطفيّ، ولتكون تلك القصائد مجالا لتضحك عليّ بها متى وجدت مجالا لتلعب معي هذه اللعبة من المراوغة البادية جدا في ردها عليّ: “حلو أنه مسروق، يعني هكذا تحليلك مسروق، هذا الذي قدرت عليه، لماذا لا يكون تماهيا معه. يعني أنت بعثته لي من أجل أن أسرقه؟”. سألت نفسي حينها: هل تحتاج أربعة شهور لتتماهى مع النص؟”. يا لها من “ثعلب”! كيف خطر على بالها هذا الرد؟ لم أقل لها هذه النقطة من الاعتراض، اكتفيت بحديثها، وأخذت أحدثها عن حلم حلمته بها الليلة الفائتة. تركتني أهذي وحدي، ولم تردّ على ما تبقّى من لغتي في محقن الرسائل الإلكترونية.

إنها ليست أكثر من خدعة، وخدعة قاسية جدا، لكنني أصبحت محصنا؛ فلن تنطلي عليّ الخدع إطلاقا بعد أن انطلت علي خدع كثيرة شتى سابقة. لماذا خدعتني هذه المرأة بهذا الشكل؟ ولماذا صدّقت خدعتها في كل مرة؟ لا أدري كل ما أعرفه ومؤمن به هو أنني لست أكثر من ذكَرِ قردٍ تتسلى به وقت الفراغ، وكلما رأت أن لديها فائضا من الملل، أو عندما تشعر بعسر في الكتابة تحدثني، ريثما تتحسن نفسيتها قليلا، ومن ثم تغادرني طويلا، ولا أسمع صوتها، ولا أقرأ لها جملة واحدة في رسالة عابرة. لا أقول ذلك تحرّشا بها كي تراجع نفسها لتتحدث وتعترض، لا شيء من ذلك أرجو، كل ما في الأمر أنني أتأمل فعلها وفعلي وفعل القصيدة ليس أكثر.

تأخذني هذه المرأة هذه المرّة وتدخل بي إلى رواية “عندما بكى نيتشه” للروائي إرفين د. يالوم، وهي رواية عظيمة في تصوير حالة الالتباس بين نيتشه وتلك المرأة المسماة “لو سالومي”، وعكسها الروائي في هذا المقطع المؤلم: “لطالما ادعيت بأني تمكنت من حل الأزمة. كانت تلك خدعة مني. الحقيقة هي أنني لم تمكّن من حلّها حتى اللحظة. فقد استولت تلك المرأة، لو سالومي، على عقلي وقبعت فيه. لم أتمكّن حتى الآن من إبعادها عن تفكيري. لا يمر يوم، وأحيانا، لا تمر ساعة، من دون التفكير فيها. في معظم الأوقات أكرهها. أفكر في إذلالها، بإهانتها على الملأ. أريد أن أراها ذليلة، تتوسل إليّ حتى أعيدها. وفي بعض الأحيان، يحدث العكس، إذ اشتاق إليها، أريد أن أمسك بيدها، أن نذهب في نزهة في القارب إلى بحيرة أورتا، وأن نحيي شروق الشمس في بحر الأدرياتيك معا”.

هذه الفكرة، وهذه الأسئلة ليست جديدة إنها شغلي الشاغل منذ عرفتها وحتى اليوم، كررتها كثيرا حتى أنني بتّ أخشى من التكرار والملل. أعود فأكتب لأذكّر نفسي بأنني أكتب وأنا لا أستطيع عنها فكاكا على الرغم مما في القلب من “حقد لذيذ” تجاهها متمنيا أن أفرغه يوما في أحشائها ونحن في التحام وصالنا المجنون، ساعتئذ سترتاح بلابل قلبي، وتهدأ صقور أفكاري، وليذهب الشعر بعدها إلى الجحيم وإلى الهاوية ولتسرقه كله إذا شاءت، ولكن ليس قبل أن تأكلني كما ينبغي لامرأة لعوب، تفرغ كل جنونها ومجونها دفعة واحدة، وهي تتمرد بعنفوان على موائد لذتي بجسدها الماسيّ المصقول، كأنها جملة برّاقة في جسد القصيدة المغمس بحليبنا الشّفاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى