أدب

 استعارة العشق في قصيدة” قلب من الزهر” للشاعر العماني سعيد الصقلاوي

أ.د نور الهدى باديس|  جامعة تونس

      يكتب الشاعر أحيانا دواوين كثيرة وقصائد شتى تصاحبه في حياته وتمثل مراحل مختلفة من محطات وجوده وانشغالاته وهمومه يتناولها الكثيرمن النقاد ويحاول البعض الوقوف على ما يؤسس لتجربةفريدة تمثل خصوصية هذا الشاعر أو ذاك وما يميز  تجربته عن آخر فيجعلها أحيانا مجال دراسة أكاديمية في بحث ماجستير أو دكتوراه، والأمثلة على ذلك كثيرة ولكن السؤال المثار دوما على بساط البحث هو: إلى أي حد يمكن للشاعر أن يحافظ على مزية خطابه الشعري وعمقه وجماليته وعدم تفاوته.

     فالسمة الإنسانية البشرية تجعل من الشعراء ومنهم الكثير أيضا من الكبار المشهورين يعرفون عند الجمهور بقصيدة واحدة قد تنوب عن كل ما كتب وتغطي أحيانا على دواوين بأسرها ولانرى في ذلك نقصا ولا عيبا وإنما هي الذائقة المتقبلة التي من حقها الانتقاء وفق شروط عدة يمكن تعيينها أحيانا وأحيانا أخرى لانجد لها تفسيرا.

    طالعتنا هذه الأفكار ونحن نتأمل أبيات للشاعر العماني سعيد الصقلاوي اختزل فيها جملة من الصور ووردت في كثافة وبلاغة موجزةمن العوالم  المختلفة المكتنزة التي رأينا محورها الأساسي هو القلب الذي مثّل المنطلق والمنتهى في هذه الأبيات العميقة القائمة على جمل اسمية تقريرية لاتحتمل التشكيك والتذبذب، المسند إليه فيها هو القلب منبع الحياة وأساس الوجود منه ننطلق وإليه نعود.

    تطالعنا القصيدة في صيغة بيان لفهم روح الحياة وكنهها،إنه عقد وجودي للشّاعر يجعل من كل مايحيط بالبشر من مادةّ ومشاعر وأحاسيس متنافضة وغيرها في علاقة وطيدة بالقلب الذي تحجّر عند البعض وفقد دوره ومهامه، فكأن بالشّاعر يصحّح مسارا ويعيد للقيم ألقها ورمزيتها:

قلب من الزهر لا قلب من الحجر 

يهدي الحياة جمال الروح والفكر 

     في عالم تسوده البغضاء والتكالب المتواصل على المنافع الماديّة وغياب الجمال في معناه الفلسفي العميق الذي يؤسّس للوجود، يرى الشاعر ضرورة التذكير بدور القلب وتخليصه مما ليس منه.فالقلب من الزّهر ولا يمكن أن يكون أبدا من حجر.لأن في الحجر برودة وصلابة وتكلّسا هي برودة الموت والفناء بينما القلب عنوان الحياة وجماله.

    قد اختزل كل الحواس والروح والفكر من هنا نفهم دور العشق المرتبط بالقلب في جعله ينير كل ما حوله ويضفي على الوجود جمالا فريدا يكسبه قدرة على تجاوز كل النقائص ليستحيل القلب وسيلة من وسائل إقناع الشاعر متلقّيه بضرورة الإيمان بهذا البيان الشعري الذي ينادي به الصقلاوي سبيلا لإنارة الروح والعقل والوجود والفكر.

“قلب تسامت على جدرانه صور 

من المحبة ملء النبض والبصر”

    هذا القلب استحال بيتا يأوي كلّ من قصده بحثا عن السّكينة والجمال ،فإذا هي استعارة مكنية تحاول الإيحاء بالمكان بذكر بعض لوازمه من جدران وجنّات ومدائن أحلام وأنهار من الأحاسيس.

    إنّها صور صوفيّة وجهاز اصطلاحي مخصوص ينشئ عوالم خاصة بشاعر يحاول زعزعة السواكن ومخاطبة الأحاسيس والمشاعر في بني البشر ،علّهم يرون الجمال من جديد ويبحثون عن الخلاص في الروح والعشق والقلب.

    هي تجربة تختزلها أبيات قصيدة ،وهي تنشد مريدين عشّاقا يبحثون عن ملاذ آمن لهواهم وصدقهم ومثّل القلب هذا المسكن وهذه الجنّة المفقودة المنشودة.

   وإن بدت في لفظة جدران شيئا من الحواجز والحدود إلا أنّ ما جاء في بقية الأبيات نفى الحدود عن هذا البيت أوهذا الفضاء الذي احتوى صور المحبّة المدركة بالحواس المختلفة بصرا وفكرا وإحساسا :

“فيه نضارة جنات وفتنتها 

فتستلذ عيون النفس والنظر “

    مثّل القلب المرتكز في هذه الأبيات فالجمل الإسمية التقريرية إما تبدأ بلفظة “قلب “مباشرة وإما يتقدم مركّب الجر المسند “فيه” على المسند إليه للتأكيد مرة أخرى على أهمية ما يبشّر به الشاعر من بيان لانقاش فيه مثّل القلب بما هو وبما فيه ويحتويه أساسه وهدفه ومبتغاه.هي استعارة الوجود والبقاء والحياة منها ننطلق وإليها نعود .في هذا القلب سحر وفتنة تشدّ كلّ من سكن إليه واهتدى به،نراه بـ”عيون النفس والنظر” فهو كائن حيّ له عيون وله ضمير قادر على المضي بعيدا لا يقف بوجهه شيء.

    هو المحبّة الصّافية الصادقة الملهمة ،جملة من الاستعارات المكنية جعلت من هذه القصيدة منفذا لدلالات شتّى من الصور العميقة المتضاربة .فإذا قلب العشق بدوره يصارع ويناجي القلوب المتحجّرة المريضة التي يعشّش فيها الكره والبغضاء والحقد والأذى يناشده السّكينة والمحبّة والرضى:

قلب يناجي ضمير القلب يحمله 

إبان حل بلا عتب ولا ضجر

فيه مباهج أيام وروعتها 

فيه مدائن أحلام من الغرر

    في هذا القلب من الأسرار واللذائذ والأحاسيس ما يجعله جنّة بها أنهار مخصوصة تسرّ الناظرين تتدفق فيسري ماؤها على كل ما يحيط بها فتعمّ حقول الحب والشّجر وتينع نباتات المودّة وأشجار الصّفاء والمحبّة.

“فيه الأحاسيس أنهار تدفقها 

يروي حقول المنى والحب والشجر “

    هذا القلب مختلف ،قلب من الزهر قلب قادر على التكاثر والإيناع والتجدّد هو نبتة منعشة فواحة في حاجة لرعاية وعناية وتعهّد.إنها كائن حي، ليست من الحجر لذلك يحثّ الشّاعر على العناية بهذه النبتة الفريدة العجيبة القادرة على تقديم الحياة وإنعاش الروح وتنمية الفكر.

    ومن هنا نعود مجددا إلى البيت المنطلق في حلقة دائرية عجيبة، القلب مبعثها ومنتهاها وكأننا في رحلة صوفية منطلقها القلب والعشق ومآلها الفناء في الآخر المعشوق المؤمن بالقلب والهوى والمحبة أساسا للوجود والسكينة وغذاء للرّوح والفكر :

“قلب من الزهر لا قلب من الحجر 

يهدي الحياة جمال الروح والفكر “

    هو ميثاق أبدي وعقد آمن به الشّاعر واتخذه مذهبا في الحياة لا يحيد عنه لإيمانه بجدواه وقدرته على زرع نبتة المودة بين البشر،نبتة فريدة لا يرها إلّا من سكنه “قلب من زهر”،تمييز مهم مقصود يخلّص هذا القلب من كلّ ما هو ليس منه هو قلب متجدد يتسم بالبياض والرائحة الزكية المتضوّعة التي تفيض على الجميع فتنعش الوجود وتفوح وتنتشر. فكان القلب بذلك طريقه إلى الأنا العاشق والآخر المعشوق ،في يقين لا يتزعزع وإيمان لا ينفذ إليه الشك والزيغ :

“مستمسك بيقين الحب ليس له 

غير المحبة فيها الروح تنفتح “

     هو وصف للإنسان الذي اتخذ من الحب رمزا للوجود.وقد أكّد على ذلك الشّاعر في جملة إسمية تقرّ بهذا المبدإ وهذا الإيمان وقد ساعد أسلوب الحصر الشّاعر في إقناع قارئه بأن السبيل إلى ذلك الطريق واحد لا نقاش فيه هو طريق الحب وهو سبيل القلب الذي بشّر به منذ البدء ونادى بضرورة اتخاذه منهج حياة ومنبع وجود وروح فكر.

إن مثل هذه القصيدة وهذه الأبيات قادرة على قصرها على اختزال تجربة شاعر كتب الكثير من القصائد عن الوطن والحبّ والسّلام والأمة العربيةوالزمان والمكان والشعر وغيرها من المواضيع وفي العديد منها نجد هذا الخيط الجامع الذي يمكن العودة إليه مع كل تجربة ومع كل غرض شعري أو موضوع متناول ويكفي التمثيل على ذلك بديوان: “وصايا قيد الأرض”(المركز الدولي للخدمات الثقافية الطبعة الثالثة 2019) للشاعر سعيد الصقلاوي لنفهم السرّ الذي يربط مختلف القصائد بهذا البيان وهذا العهد الذي قطعه الشّاعر على نفسه ونادى به ،ميثاقا للحب والسلام والتعايش(انظر مثلا سلمت وتسلم.ص.77 وشمس التاريخ ص،81، ومشرق الزمان، ص.95 وقلوبنا عيون ص 105 ووجدنا لكي لانموت ص 113 وغيرها).

     إنّها أصل جامع لذلك رأيناها استعارة قادرة على استيعاب مختلف المواضيع والأغراض لتمثل نسقا حاضنا للوجود في مختلف تجلياته ومضامينه ومنعرجاته وتناقضاته،هي استعارة تبشّر بالخلاص وتدعو للمحبة سبيلا للسمو والتعالي على سفاسف اليومي فكانت تلك الأبيات هي”وصايا الشاعر للأرض” ومن عليها لتجاوز الآلام والأوجاع والمآسي وسبيله لفتح الباب على الآمال والأحلام والعشق العابر للمكان والزمان المتعالي على الشرور والأحقاد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى