هل يتغير عالم ما بعد الكورونا؟ تمسَّكوا بالحياة والأمل تصِحّوا

د. فيصل رضوان| أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية بالولايات المتحدة الأمريكية

هل يمكن لأزمة بهذا الحجم أن تعيد ترتيب المجتمع بطرق دراماتيكية؟ وهل يتغير عالمنا للأفضل أم للأسوأ؟

ربما أحداثا مثل الحادي عشر من سبتمبر وثورات ما يسمى بالربيع العربى أعادت تشكيل العالم ومجتمعاتنا وثقافاتنا  بشكل دائم، وتغيرت كيفية السفر والتنقل، إلى ممارسة الحريات ومفهوم المواطنة، تغير مستوى الأمان والمراقبة، وحتى مفردات اللغة التي نكتبها ونستخدمها ونسمعها لم تصبح كما كانت.

فيروس جديد يبقينا فى منازلنا – ربما لأشهر – قد يعيد بالفعل تشكيل علاقتنا بحكوماتنا ، والعالم الخارجي ، وحتى مع بعضنا البعض. الأشهر أو السنوات القادمة تبدو غير مألوفة أو مقلقة: هل ستظل بعض الدول مغلقة نوعًا ؟ هل سوف يعود التصافح واللمس كما كان بالأمس؟ ماذا سيحدث للمطاعم والأسواق المزدحمة؟

لا شك أن لحظة الأزمة والحرمان قد وفرت للكثيرين فرصة عظيمة للاستخدام الأكثر تعقيدًا للتكنولوجيا لتأدية الأعمال عن بعد، وحب الآخرين، وإحياء تقدير الطبيعة ومتعة الحياة البسيطة الأخرى. لا أحد يعرف بالضبط ماذا تحمله الأيام القادمة حتى يسكن هذا الوباء. ولكن  نفترض إن هذا المرض قد زال، كيف نتوقع تغير مفهومنا لدور الحكومة، والرعاية الصحية، والاقتصاد، وأنماط حياتنا عمومًا؟

ليست البراءة ، أو الرضا عن النفس كافية،  بل الحذر  الشديد هو طريقة جديدة الان للتواجد في هذا العالم. نعلم الآن أن لمس الأشياء والتواجد مع أشخاص آخرين وتنفس نفس الهواء في مكان مغلق يمكن أن يكون أمرًا خطيرًا. مدى سرعة تراجع هذا الوعي ستختلف باختلاف الأشخاص ، ولكن لا يمكن أن يختفى تمامًا لأي شخص عاش خلال هذا العام.  قد نفكر كثيرا عند المصافحة أو لمس وجوهنا – وقد نجد أننا لا نستطيع التوقف عن غسل أيدينا بشكل متكرر. قد يتم استبدال الراحة في مجالسة الآخرين—ربما براحة أكبر مع الغياب والوحدة ، خاصةً مع أولئك الذين لا نعرفهم بشكل وثيق. و بدلاً من السؤال “هل هناك سبب للقيام بهذه المهام عبر  الإنترنت؟” سوف نسأل ، “هل هناك سبب وجيه للقيام بذلك شخصيًا؟” – وقد نحتاج إلى من يذكرنا بذلك الماضى قبل الفيروس!  ولسوء الحظ ،فإن أولئك الذين ليس لهم القدرة على الولوج السهل بالشبكة العنكبوتية سيصبحون أكثر حرمانًا. التواصل عبر الإنترنت سيتزايد ولا يعتد اذاً بالمسافة أو بالمكان.

أغلب دول العالم ومنها أمريكا تضع القوات المسلحة رمزًا للوطنية. ولكن قد اثبت الان عمليًا أنه لا يمكن إطلاق الصواريخ على فيروس لقتله. لقد اصبح فى الخطوط الأمامية ضد كورونا ليس مجندين أو قوات خاصة  ؛ بل هم الأطباء والممرضات والصيادلة والمعلمين وضباط الأمن والبائعون فى المتاجر وعمال المرافق والبريد. الكثير من هؤلاء يواجهون اليوم مهامًا صعبة احيانا لا يمكن فهمها، لهم الفضل فى منحنا الأمل وتحريك حياتنا الى الأمام، رغم زيادة الخطر عليهم— فى مشهد بطولة ربما لم يسبق لهم الاشتراك فيه من قبل. عندما يسدل الستار، ربما سنعترف ونقدر تضحيتهم الوطنية، نحيي أطبائنا وممرضاتنا، الذين يضحون بصحتهم وحياتهم من أجل صحتنا ونقول ، “شكرا لخدمتكم” ، كما نفعل الآن مع جنودنا فى جبهة القتال. سنمنحهم مزايا صحية، بدلات وخصومات، وسنبني لهم التماثيل ونصنع لهم عيدًا قوميًا وليكن “يوم الطبيب”،  ونذكر اولادنا بقيمة عاملو الصحة بالمجتمع. ربما أيضًا ، سنبدأ أخيرًا في فهم الوطنية على أنها رعاية صحة وحياة مجتمعية طيبة يعمها السلام والعدل.

الصدمة غير العادية التي يجلبها الكورونا قد تكون لها القدرة على كسر  الاستقطاب السياسي والثقافي الذي وقعنا فيه ، والمساعدة إلى تغيير المسار نحو وطنية حقيقية تقوم على التضامن ومشاركة الأدوار. قد يبدو الأمر مثاليًا ، ولكن هو سيناريو “العدو المشترك”، وفيه يبدأ الناس في تجاوز خلافاتهم عندما يواجهون تهديدًا خارجيًا مشتركًا. تقدم لنا COVID-19 عدوًا هائلًا لن يميز بين الأحزاب والجماعات المتناحرة، بل يوفر طاقة إيجابية للاندماج وإعادة التجمع.

لقد أجبرت الأزمة الناس بالفعل على العودة إلى قبول أهمية الخبرة.  استدراك الحقيقة ومبعوثها الأكثر شهرة ، العلم. كان من السهل — حتى على المستوى الرسمي، السخرية من الخبراء حتى وصل الوباء ، وبعد ذلك لجأ الناس إلى الاستماع لأهل العلم. وبسرعة بحث الناس عن الحقائق العلمية مثل نشأة وتطور الجراثيم ونموها الأسي. وهنا فرصة فريدة حتى يتمكن اصحاب نظريات الخرافة والشلولو والمشككون في العلم من رؤية تأثيرات كورونا المفجعة. ربما نأمل الان ولاحقا،  أن نعيد النظر إلى مستوى الجدية،  ونضبط ميزان الأمور واستدراك المخاطر . وقد ندرك من جديد أن الحكومة هي مسألة الأشخاص الجادين وتصريحات جادة موزونة. الفشل الهائل للحكومات،شرقًا وغربًا، فى إدارة الأزمة من بدايتها كان له ابلغ الضرر على الصحة، ولا زال الوباء يحصد الأرواح ويسبب انهيار وركود اقتصادى كبير.

وعلى النقيض من ذلك، قد تبدد جائحة الكورونا علاقتنا الرومانسية مع مجتمع السوق والفردية المفرطة —وربما يمكن أن نتجه نحو نوع جديد من الاستبداد ومركزية القرار وسيناريو اخر بائس، يمثله سلوك البحث عن الذات. تخيلوا أن الرئيس دونالد ترامب ربما يحاول تعليق انتخابات نوفمبر على سبيل المثال. أو فى ظلال هذه الأزمة، ربما يفكر في احتمال شن حملة عسكرية، وهنا أعتقد أننا سنذهب في الاتجاه المعاكس.

عندما ينتهى الوباء هذا، سوف نعيد توجيه سياستنا للأفضل ونقوم باستثمارات كبيرة في المنافع العامة – للصحة بشكل خاص – والخدمات العامة عمومًا. لا أعتقد أننا سنصبح أقل طائفية وحبًا للذات؛ بل سنكون قادرين بشكل أفضل على رؤية كيف ترتبط مصائرنا. بالتأكيد سوف نرفض ان نأكل فى مطعم يرفض صاحبه إجازة مرضية مدفوعة لعماله لإن هذا المطبخ يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض  — مثله مثل هذا الجار المستخف بالأمر الذي يرفض البقاء في المنزل رغم التحذير من وباء خطير — ربما لأن مدرسنا العامة فشلت في تعليمه بديهيات العلوم أو مهارات التفكير النقدي.

سينهار الاقتصاد والنظام الاجتماعي إذا لم تضمن الحكومات الدخل لملايين العمال الذين سيفقدون وظائفهم في حالة ركود ما أو كساد كبير. سوف يفشل الطلاب إذا لم تساعد الدول في تخفيض ما عليهم من مستحقات وتمكينهم من التعليم عن بُعد مساواة بالاغنياء. إن جائحة كورونا ستسبب آلاماً ومعاناة هائلة، لكنها ستجبرنا على إعادة النظر في هويتنا وما نقدره وما يستحق أن نبغضه؛ وربما على المدى الطويل ، يمكن أن تساعدنا  على إعادة اكتشاف النسخة الأفضل من أنفسنا.

لقد توقف العالم من التجمع وممارسة الطقوس المقدسة. هل تستطيع العائلات المسلمة الاحتفال بشهر رمضان إذا لم تتمكن من دخول المساجد لأداء صلاة التراويح أو التجمع مع الأحباء للإفطار؟  امريكا هى شعب محب لعيد الفصح حيث انتصار الرجاء والحياة على الخوف. ولكن كيف يحتفل المسيحيون إذا لم يتمكنوا من الفرح معًا في صباح عيد الفصح؟ كيف يحتفل اليهود بالباسوفر وبخلاصهم من العبودية.

لقد بقيت الأديان رغم التحديات على مدى العصور الفائتة،  وظل الإيمان على قيد الحياة في ظل ظروف  الحرب أو الشتات والاضطهاد. ربما ممارسة الدين في زمن البقاء بالبيوت يصنع تحديًا اكبر  للشيوخ وكيفية ظهور الحكمة فى رسائلهم الدينية، وعلى الجانب الآخر  ربما يتيح الفرصة لأولئك الذين يبحثون عن الحقيقة لأخذ عينات من المواعظ من بعيد.

سوف يخلصنا هذا الوباء من العديد من الحواجز الاصطناعية والقيود التي طالما تحول دون نقل المزيد من حياتنا عبر الإنترنت. لا يمكن أن يصبح كل شيء افتراضيًا بالطبع. ولكن في العديد من المجالات ، تباطأ استيعاب أدوات الإنترنت المفيدة من قبل من لهم المصلحة أو مقاومو التغيير ، الذين يعملون غالبًا بالتعاون مع البيروقراطية وهيكلها الحذر. إن هذه المقاومة ربما تزول تدريجيا ويسمح بالتعليم المنزلي الجزئي أو التعلم عبر الإنترنت لأطفال من الروضة حتى الثانوي؛ حيث تجد العديد من العائلات قد تفضل التعليم المنزلي الكامل أو الجزئي أو الواجبات المنزلية عبر الإنترنت. بالنسبة للعديد من طلاب الجامعات ، لن تكون العودة إلى غرفة نوم باهظة الثمن في جوار الحرم الجامعي فكرة جذابة،  اذا تمكنوا من حضور محاضراتهم ومناقشة أساتذتهم عن بُعد. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القيام بكل وظيفة عن بُعد ، إلا أن الكثير سوف يقارن المكاسب والتكلفة بين التنقل لساعات، أو العمل بكفاءة من المنزل بمجرد تنزيل تطبيق أو تطبيقين؛ وإذن مسبق من رئيسهم . قد يتضح أن عددًا هائلاً من الاجتماعات وحتى مواعيد الأطباء كان يمكن أن يكون بالفعل إلكترونيًا. البقاء في المنزل لإجراء مكالمة فيديو يبقيك خارج نظام النقل العام ، وخارج غرفة الانتظار ، والأهم من ذلك ، بعيدًا عن المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية حرجة.

ربما يمكننا فى المستقبل استخدام وقتنا مع أجهزتنا الذكية لإعادة التفكير في أهمية المشاركة فى نشر الوعي الصحيح ومشاركة الآخرين  همومهم. ففي الأيام الأولى من التباعد الاجتماعي، رأينا أمثلة ملهمة حيث ينشر الكثير معلومات وكتب مجانية ومقالات بلغة سهلة تصل لجميع القراء، رغم تكاثر ادعياء العلم ومروجو الإشاعات وأصحاب البدع والوصفات. إن هذا الوباء قد افسح المجال لسخاء الإنسان وتعاطفه، حيث يدع الإنسان أنانيته جانبًا ويسأل نفسه: “ما الذي يمكنني تقديمه بشكل ما للآخرين؟ لدي حياة وتاريخ. والآن ماذا يحتاج الناس؟ ”  —هنا حيث يعود الإنسان إلى الفطرة الحسنة وهى أكثر غرائز البشرية روعة.

كشف جائحة كورونا عن ثغرات مخيفة في البنية التحتية لرعايتنا الاجتماعية ، حيث اضطرت ملايين العائلات إلى الإبحار في هذه الأزمة ماديا ومعنويا بدون شبكة أمان. المرضى الأحباء والجميع كبير وصغير فجأة معا في نفس المنزل إلى أجل غير مسمى. أجبروا على اتخاذ خيارات مستحيلة بين أسرهم وصحتهم على جانب،  والخراب المالي على جانب اخر. اتضح أن المساعدة المجتمعية الجيدة لرعاية الأطفال والمسنين محدودة للغاية ، وإن قلة قليلة للغاية من العمال يمكنهم الحصول على إجازة مدفوعة الأجر . هنا وجب مستقبليا أن تطلق هذه الأزمة العنان للدعم السياسي الواسع للرعاية الشاملة للأسرة – وإنشاء صندوق عام واحد، نساهم فيه جميعًا ، ونستفيد منه جميعًا ، يؤمن الجميع مخاطر ترك العمل ويوفر رعاية الأطفال ورعاية المسنين ودعم الأشخاص ذوي الإعاقة وإجازات استثنائية مدفوعة الأجر.

كشف الفيروس هذا عن فشل النظام الربحى فى منظومة الأدوية القائم على آليات السوق لتطوير وبحث وتصنيع الأدوية واللقاحات. وربما حان الوقت ان يعاد النظر الى بعض الضوابط المرتبطة بالحوافز الحكومية للقطاع الخاص وخصوصا شركات الأدوية. ببساطة لن تقوم شركات الأدوية الخاصة بإعطاء أولوية للقاح أو أي مضاد آخر  حتى يتم ضمان ربحيته والذي يأخذ ربما سنوات.

ربما صدمة هذا الوباء ستجبر المجتمع نبذ الثقافة الاستهلاكية المفرطة كسعر معقول للدفاع عن أنفسنا ضد العدوى المستقبلية والكوارث المناخية على حد سواء. لعقود من الزمان ، زادت شهواتنا فى التعدي على مساحات متزايدة من هذا الكوكب من خلال أنشطتنا الصناعية غير المنضبطة بيئيًا، مما أجبر الأنواع الكثيرة من الحيوانات البرية على النزوح والاكتظاظ في أجزاء متبقية بالقرب من موطننا. هذا ما سمح للميكروبات الحيوانية مثل الكورونا المستجدة- ناهيك عن مئات الميكروبات من الإيبولا إلى زيكا – بالعبور إلى أجسام البشر ، مسببة الأوبئة. نظريًا ، يمكننا أن نقرر تقليص بصمتنا الصناعية والحفاظ على الطبيعة الخصبة للحياة البرية ، حيث تبقى الميكروبات الحيوانية في أجسام الحيوانات، بدلًا من انتقالها التدريجي للبشر.

هنا ينتهى المقال، ولم تنتهِ الأزمة بعد؛ وتبقى رسالتى لكم : تمسكوا بالحياة والأمل تصِحّوا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى