أدب

فات الأوان يا عهد

عبير داغر اسبر | مونتريال

من غرفتي، من وراء مكتب بائس أتحجّر خلفه، اسمع دوياً ألفته، سقوطاً يحتل كل وعيي، “جود” يحاول النهوض مجدداً، يكابر ويزحف على ركبته، ويجر أخرى وراءه. تخترق عيناي جدراناً تفصلنا، وأراه، يجر نفسه، يجرها كاملة، برضا، بقبول يدمركَ.
لمَ لا يشتم؟ لمَ لا يلعن، ويغضب، ويحقد، ويمزق جسده، ويمزق أبويه؟ لم لا يبصق عجزه في وجهنا كل صباح، لم لا يستطيع إنجاز فعل نمارسه بكل مكانيكية؟ تمتلئ مثانتنا، وننهض من النوم لنفرغها، ونعود لدفء فراشنا.
لكن مع جود، كل فعل غبي عادي، يبتدئ بسقوط، وألم، وزحف، وخجل من صوت يعلم أنه يوقظنا، ويعلم أنّا نتجاهله، بصمت قاتل نترقب إتمام وظائف جسده، أمه في سريرها، تنزف أمومتها، تتكور قهراً، وأنا بوجه جليدي، بلا ملامح، أنتظر أن ترحمني الحقيقة قليلاً، أنتظر أن أغرق بصمتي مجدداً، صمت يعيدني إلى النسيان، نسيان وعدت نفسي به، نسيان ظننت أني أستحقه بعد كل ما مر عليّ..
نعم ولد ابني مشوهاً، ولد بعامود فقري لم يسعفه لينتصب مثلنا، ولد بابتسامة على وجهه، وفرح لا أدري من أين اخترعه، من علمه إياه؟ ولد ليلقننا كل لحظة دروس براعته، انتصاراته في حروب لا غالب فيها، يدخلها ابننا خاسراً دوماً، يدخلها زاحفاً، مثقلاً بالشفقة، مهزوماً بالتعاطف، مكبلاً بالتفهم، وكل ما نفعله لنؤكد له أنه لا يشبهنا، أنه يعيش بمفردات أخرى، ويتكلم لغة لا نفهمها، ولا نريد تراجم لها، لنؤكد له أننا نريد أن نزيح وجهنا عنه، وعن كل ما يذكرنا بصورته المشوهة التي تعكس عجزنا عن القبول.
سألتني عهد مرة، سألتني عنكَ، قسوة شبابها سألتْ، جمالها سأل! لمَ لا يموت ؟ لمَ لا ينهي حياته؟ لمَ لم تؤاتك الجرأة لتضع السم في طعامه، لتخنق أنفاسه بوسادة، لتذبحه من الوريد إلى الوريد، وتلطخ جبينك بدمائه، وترحم نفسك، وترحمه من آلام الرجم كل صباح، كل مساء!؟
كان قد فات الأوان يا عهد، كنت جباناً ولا زلت، ظللت جباناً حتى النهاية، حتى حدود للذكريات أنكرها، وأضع قواعدها، جباناً حتى بتحكمي القاصر بأحلامك المشتهاة، جباناً برفضي لأحلامي المشتهاة! جباناً ظللت، أوضب حياتي في حقيبة سفر، جاهزة للهرب، فقد فات الأوان! لم أستطع مواجهة جود، رفضَ جود، أو قَبوله. لمْ أستطع إنهاء حياتينا، برصاص كالرذاذ، ينثر لحمنا في أرجاء الأرض، قبل أن أفتح حنجرته للصراخ، وأختنق بالصمت.
لم أدرِ لم أظل أمتلئ حباً لابن لم يعطني سوى القهر، وهو يمتلئ حباً لي، ولدنيا لم تعطه سواي، وفضلاتها، وصدّرت له أبشع صورها. عاش ابني أعوامه الطويلة دون رغبة بالموت، كما عشتِ أعوامك كلها رغبة بالرحيل، أصبح شاباً بوجه كامل الهيئة، نضر، وجسد لا بقية له سوى لزوجة الرخويات، وظل يحبنا، ويحب الحياة، وأنت كنت جميلة ومرتحلة كاللحظة المغادرة، وستظلين كذلك إلى أن أنتهي قبلك، أو منك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى