بين الإخلاص والمواطنة

مرفت عبد العزيز العريمي | كاتبة وباحثة – مسقط

لماذا هناك أشخاص مخلصون وآخرون بعيدون كل البعد عن هذه الكلمة، وهل الإخلاص جينة وراثية ؟ أم صفة مكتسبة ؟

الدراسات العلمية الحديثة أشارت إلى أن الإخلاص صفة وراثية كغيرها من الصفات، إلا أن العوامل البيئية والاجتماعية – بشكل أو بأخر – تؤثر علينا بدرجات مختلفة،  وتصمد المبادئ الأخلاقية عندما تتوفر  السمات الشخصية القوية، والراسخة  فالبناء القوي لا  يمكن  هدمه بسهولة .

ألا تنتابك بعض من المشاعر غير المريحة عندما تبتعد عن من تحب؟ ألا تشعر بحزن ..كمن فقد  روحه أو جزء من نفسه؟ ..ألا تتحدث مع  نفسك وتقول: آه كم أحبها… أعشقها.. لا أستطيع الابتعاد عنها كثيرا…  لا أشعر بالمتعة في السفر، فهي ليست معي .. مهما قست علي  أجدني منكسرا ذليلا أمامها، فهي نقطة ضعفي.

ألا تنتابك بعض اللحظات من الإحباط التي تجعلك تشعر أن الدنيا قد ضاقت عليك بما رحبت …  فتقرر هجرانها لكنك في اللحظة الأخيرة تتراجع، وترتمي في أحضانها سعيدا فخورا بها…

إنه الإخلاص يا عزيزي.. الإخلاص الصفة التي تجعلك  تتحمل الكثير مما لا تهواه نفسك في سبيل  الآخر ولعل حب الوطن  من أسمى أنواع الإخلاص، والوفاء

يقول مخلص وهو اسم مستعار لشاب وجدت فيه إخلاصا نادرا، وجميلا للوطن  “ أشعر بإحباط شديد نتيجة للظروف الذي يمر بها  وطني وقسوة الأيام عليه، خصوصا عندما أجد بعضا من أبنائه ينكرون فضله ويتقاعسون عن أداء واجباتهم تجاهه عندما يكون في أمسّ الحاجة إليهم…

ويجعلني ذلك مكتئبا منزويا… إلا أنني بعد حين  أستجمع قواي، وأخرج من عزلتي، وأحاول مؤازرته.. فهو موطني… الذي قدم لي الكثير، ولم يبخل علي يوما، وفي أحلك الظروف كان ينير دربي… كلنا ننتمي له.. كلنا بحاجة اليه، فهو من زودني بالمعارف الحياتية، منذ نعومة أظفاري أجده متواجدا حولي يخط لي دربي ويتابعني عن كثب، ويحوطني بالرعاية… فهو من وفر لي الاستقرار .. والأمان… والعمل…

 (سأظل حتى آخر يوم في حياتي أردّ له الجميل بالعمل المخلص الدؤوب.. وتنشئة أبنائي على حبه… حبه  الذي تملك قلبي،  وكل جوارحي منذ أن لمست قدماي ترابه)… كلمات عبر بها مخلص، وهو حزين، وحائر، وهو يرى أبناء وطنه الغالي لا يحركون ساكنا  في خدمة هذا الوطن..

 أبناء قد نعموا بخيرات هذا الوطن، خيرات يفتقدها  نظراؤهم في المجتمعات الأخرى، أبناء غرفوا من خزائن هذه الأرض الطيبة في مقابل ذلك تملصوا من تعمير أرضها.

أتحسر عندما أرى مواطنا يحسب الثواني، والدقائق للذهاب إلى المنزل تاركا أكواما من المعاملات غير المنتهية متكدسة على طاولته غير عابيء بالأضرار الذي يتسبب بها لوطنه.

أتألم، وأنا أشاهد آثار الدمار على المرافق الخدمية، والحدائق العامة الذي بنيت خصيصا لخدمة هذا المواطن .

 أتساءل أحيانا: يا ترى ما هو مفهوم المواطنة عند المواطن؟ هل هو مؤازرة  المنتخب الوطني  في المباراة بارتداء اللون الأحمر أو الابيض؟ أم قصيدة شعرية ذات كلمات منمقة في مناسبة وطنية؟

 وأحيانا أخرى أتساءل ماذا يعني شعوري بالحسرة على أبناء هذا الوطن  هل هي حساسية زائدة في لحظة انفعال أم شعور بالانتماء إلى هذه الأرض.

كنت أحب صحبة جدي كل مساء إلى شاطئ البحر نراقب الشمس وهي تغوص في أعماق البحر معلنة انتهاء يوم آخر من عمر الإنسان ، كنت أشاهده واقفا صامتا متأملا هذا المنظر سارحا في ذكريات المراهقة  الصعبة  في عرض البحار، فلم تكن حياته سهلة،فالسفر ،والترحال من قارة إلى أخرى  كانا رفيقيه طوال خمسين عاما… سألته مرة : لماذا  أنت متمسك بعاداتك  العمانية في كل شيء؟ .. خمسون عاما التي قضيتها ، وأنت تجوب البحار من دولة لأخرى لم تغير فيك حتى لهجتك العمانية  القحة ..؟ نظر إلي والابتسامة تعلو شفتيه ، مسح على رأسي،  ثم قال..  بنيتي من بلا هوية لا وطن له… فالمواطنة ليست جنسية … إنه شعور بالانتماء،  وحب لا متناهي لأرض،  وشعب هذا الحب متأصل في أعماقنا .. في تلك اللحظة لم أدرك ماذا يقصد، ومرّت الأعوام، وعباراته ما زالت ترنّ في أذني حتى أدركت ماذا يعني بحديثه بعدما تلمست معاناة مخلص وغيره من الأشخاص المنتمين إلى الوطن .

أدركت أن الانتماء أقوى من المواطنة  المسجلة في الأوراق الرسمية، وانها حالة لا شعورية يتم تغذيتها بالتربية يشعر فيه الانسان بالارتباط  بالوطن الذي ولد فيه،  وترعرع، إن الانتماء أعلى مراتب المواطنة وهو حالة تعاقدية بين الأرض والإنسان.

 المواطنة أن يكون للمواطن حقوق وواجبات في اطار سيادة القانون إنه المحور الذي تدور فيه الحقوق والواجبات. إنه انتماء عقلي وموضوعي للقيم،  إنه بذل،  وعطاء، إننا في أمسّ الحاجة إلى التربية الوطنية في المدارس، والجامعات  تحتاج إلى عناصر من المتعلمين المثقفين القادرين على استيعاب المجتمع  بقيمه،  وثقافته الذين يتمتعون بالشفافية ، والموضوعية البعيدة عن التميز هذا  النوع  هو القادر على تغذية الجيل من الشباب الذين هم عماد الأمة.

إن الوطن ليس مجرد حيز جغرافي، الوطن تاريخ الفرد وجذوره وأجداده ..الوطن مخزون ثقافي، وحضاري، وعلمي، وأدبي يسري في عروقنا، والانتماء إلى الوطن روح تتغلغل في كل فرد منا ، فأصبحنا كلنا مواطنين ننتمي إلى هذا الأرض الطيبة، ونرتبط بهذا الوطن بوشائج عميقة لا تتزعزع أمام الرياح العاتية، الانتماء إلى الوطن لا يحتاج إلى مزايدة، أو كلمات،  وشعارات نرددها، أو عبارات بلا روح ننطقها، الانتماء إلى الوطن يعني (العمل الجاد معا يدا واحدة لبناء كل شبر منها، الانتماء إلى الوطن يعني المحافظة على روح التضامن وروح الجماعة بين أبناء الوطن تحت راية الوحدة الوطنية).

 لا يشعر بقيمة الوطن، وأهميته، وأفضاله إلا من فقدها سواء بالهجرة الجبرية، أو الاختيارية ، لا يشعر بقيمة الوطن إلا من عايش عمان قبل أربعين عاما ،نعمة الوطن يشعر بها الصبي الذي نشأ ، وترعرع في أرضها ، وشرب من مائها ، وأكل من ثمارها،  فعندما يفارقها يشعر بالشجن بمجرد التفكير بها ، ويشده الحنين إليها ، فلا بديل للأوطان، لأنها لا تُباع،  ولا تشترى، والنفس السوية بطبعها تألف موطنها الذي ولدت، ونمت فيه، وتحميه من كل مكروه وإن كان صحراء قاحلة.

إذا نظرنا إلى تاريخ تطور الأمم لوجدنا ما من حضارة نمت، وقويت إلا بترابط أبنائها بوشائج قوية أساسها التراحم ، والتلاحم،   ونبذها للعنف، والكراهية،  والتخريب، والاهتمام بمكتسبات الوطن، وحضارته ،فالوحدة الوطنية من أهم الثوابت التي لا يمكن تحقيق البناء، والتقدم الإ عليها.

المواطنة الحقيقية تظهر عندما يقف المواطن صامدا مواجها كل من يحاول تقزيم مساعي التطوير،  والبناء بالتذمر، والشكوى،  والهدم، المواطنة الحقة هي عندما يحتوي المواطن أخاه، ويرشده إلى طريق الصواب فالفرد جزء من كل.. الإحساس بالمواطنة يتجسد فيما قاله أحمد شوقي أمير الشعراء “وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي”.

 المواطن المنتمي إلى وطنه  يكون محبا ، غيورا على هذه الأرض بكل ما فيها،  لأن ترابها ثمين،  وهواءها غالٍ،  فالمواطن الصالح صاحب مبادئ لا يدمّر،  ولا يخرّب،  لأنه  يدرك أن الحوار بالحسنى وأن المطالب تتحقق دون إثارة الفتن، والقلاقل، و كما قال الشاعر “لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة  إذا جهالهم سادوا “، فمع التكنولوجيا الحديثة أصبحنا في قرية صغيرة  نستطيع إيصال صوتنا إلى أعلى المستويات،  وهذا هو ما يسمى “بحرية الرأي المسؤولة”  التي لا تكون فيها أي مساس لحريات وممتلكات الآخرين، ولا تشويه للحقائق بهدف الإضرار بالمصالح العامة  دون السعي إلى إشراك أطراف أخرى تستفيد من الفرقة «لا ضرر ولا ضرار “.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى