فلسفة الجد والهزل فى أدب الجاحظ

د. عوض الغبارى
أستاذ الأدب العربى بكلية الآداب جامعة القاهرة
الجاحظ من أهم أعلام الأدب العربى فى العصر العباسى، وقد أوتى شغفا بالعلم والثقافة، واتجه إلى التأليف الموسوعى لثقافته الغزيرة، واطلاعه على ما تُرجم من آداب وعلوم وفنون فى عصره، فاتصلت ثقافته العربية الإسلامية بالثقافات الأخرى يونانية وفارسية وهندية وغيرها.
وقد كان نَهِما للقراءة، ذكيا، شغوفا بالتحصيل المعرفى الواسع، ومن هنا اكتسب أهميته فى الأدب العربى، وصار رأسا لكتابة فن النثر الذى تنوع بين الكتب والرسائل فى علوم اللغة العربية، وآدابها، وثقافتها وحضارتها.
وقد كان فليسوفا معتزليا أداه المنطق العقلانى إلى كثير من القدرة على الإفهام والإقناع والجدل المثمر المطروح ببيان عربى جميل، وأسلوب فنى متميز.
يعد الجاحظ أكبر كاتب ظهر فى العصر العباسى، فى رأى “شوقى ضيف” الذى نوافقه رأيه، وقد اتسمت شخصيته بالميل إلى المراوحة بين الجد والهزل، وظهر أثر ذلك فى كتاباته بما فيها من عمق فكرى فلسفى امتزج بكثير من الطرائف والنوادر فى أسلوب قصصى جذاب. ومن كلامه عن الجد والهزل من رسالته : “التربيع والتدوير” :
أول ما أذكر من خصال الهَزْل، ومن فضائل المَزْح، أنه دليل على حُسن الحال وفراغ البال، وأن الجِدَّ لا يكون إلاَّ من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلاَّ من فضل الغِنى… والجِد مبغضة، والمزح محبة… وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدُّوا ليهزلوا، كما تذَّللوا ليعزُّوا، وكدُّوا ليستريحوا، وإن كان المزاحُ إنما صار معيبا، والهزلُ مذموما، لأن صاحبه لا يكون إلا معرَّضا لمجاوزة الحد، ومخاطرا بمودة الصديق… فأمَّا الذى عَدَل بينهما فإنه زعم أنَّ المِزاحَ فى موضعه، كالجِدِّ فى موضعه، كما أنَّ المَنْعَ فى حقِّه، كالبذْلِ فى حقِّه.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المِزاحَ فى الجملة كالجد فى الجملة، بل نزعم أنَّ بعض المزاحِ خير من بعض الجِدِّ، وعامة الجِدِّ خيرٌ من عامة الهزل.
فإن ذممنا المزاحَ ففيه لعمرى ما يُذمُّ، وإن حَمِدناه ففيه ما يُحمد، وفصل ما بينه وبين الجد أنَّ الخطأ إلى المزاح أسرع، وحالَه بحالِ السُّخف أشبه.
فأمَّا أن يُذَمَّ حتى يكون كالظلم، ويُنْفَى حتَّى يصير كالغدر فلا؛ لأنَّ المزاح مما يكون مرةً حسنا ومرة قبيحا.
فى هذا النص يتجلى جانب من خصائص الأسلوب النثرى للجاحظ، وأظهره ثقافته الواسعة، وقدرته على توظيف هذه الثقافة فى إقناع المتلقى وإمتاعه.
الجاحظ يرى الأشياء بفلسفة لا تراها خيرا مطلقا، ولا شرا مطلقا، والجد والهزل مثال ذلك إذ نجد لكل منهما إيجابياته وسلبياته.
والجاحظ قادر على إبراز الشئ ونقيضه فهو فيلسوف معتزلى، والمعتزلة يجعلون التحسين والتقبيح أصلا من أصول فكرهم الفلسفى، ويملكون من القدرات العقلية ما يستطيعون به إبراز حججهم، والإقناع بها.
والاستطراد من أهم سمات فن الجاحظ فى الكتابة النثرية، فهو يعرض الفكرة فى معارض متنوعة لكى يقدمها للمتلقى فى أكثر من صورة تتميما لها، وحرصا على التوضيح. كذلك فالتقسيم وازدواج العبارة، وتقابلها فى جرس موسيقى من أهم خصائص فنه النثرى، من مثل قوله فى هذا النص : “الجد مبغضة، والمزح محبة” فهذا اللون من الأسلوب قائم على المقابلة (أكثر من طباق)، وكذلك قوله : “وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدُّوا ليستريحوا” فهناك صورة تقابلها صورة أخرى يجمع بينهما تناسق موسيقى، وهو ما يميز أسلوب الجاحظ.
والسجع يجعل الإيقاع النغمى فى عبارة الجاحظ مؤثرا فى المتلقى، وكذلك الجناس.
ونموذج الأسلوب الذى يمثِّل السجع قوله : “ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال، وفراغ البال”، إضافة إلى الجناس، فى هذه العبارة، بين الحال والبال. وتطرد الحكمة فى نثر الجاحظ قائمة على خبرة بفلسفة الحياة؛ نظرية وعملية، مثل قوله إنَّ “المزاح فى موضعه، كالجد فى موضعه، كما أنَّ المنع فى حقه، كالبذل فى حقه”.
كذلك رؤيته للشئ الواحد فيه الحسن والقبح فى آن. ويتصور الجاحظ أنَّ هناك من يرى الجد أفضل من الهزل، ومَن يرى العكس، ويعرض حجة الرأيين، وينظر إلى هذا وذاك ليعرض لجوانب القضية فى شمولها واتساعها برؤية ثاقبة، وبصيرة نافذة، وصور بليغة، وموسيقى رائعة، وأسلوب جذاب، ومنطق واضح، وبرهان نافذ.
والجاحظ حريص على جذب قارئه، وعدم إملاله، بما يقدمه فى كتاباته من تنوع وموسوعية واستطراد ومرح وفكاهة ونوادر وقصص يسردها بمهارة فنية.
وقد أشار “شوقى ضيف” إلى خصائص أسلوبه من هذا المنطلق متحليا بالعذوبة والرشاقة، متوخيا الوصول إلى قلب القارئ وعقله، والفوز برضاه.
يقول الجاحظ فى “البيان والتبيين” موضحا رؤيته للأسلوب الأدبى : “أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه فى ظاهر لفظه… وإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا… صنع فى القلوب صنيع الغيث فى التربة الكريمة”. فالصياغة فى جمالها واعتدالها غاية الأدب، خاصة هذا الأدب الذى يبغى الإقناع والحوار البنَّاء فى الجدل مما يقوم عليه أدب الجاحظ الموسوعى الذى يوظِّف ثقافته الغزيرة من قرآن وحديث وشعر ونثر وفلسفة وحكمة وخبرة بواقع الحياة إلى غير ذلك فى تقديم أدب معبِّر مؤثر.
ورسالة التربيع والتدوير صورة بالغة الدلالة على فن السخرية وفلسفتها عند الجاحظ.
فقد هجا كاتبا معاصرا له ساخرا من شكله الجسدى الذى وصفه بأنه مربع مدوَّر ، ومن هنا جاء عنوان الرسالة.
واستخدم الجاحظ صورا كاريكاتيرية ضاحكة للمبالغة فى تلك السخرية.
واستعان بما يملك من طاقة أسلوبية هائلة فى الجدل والبراهين على ما يوجهه لخصمه من التهم.
ونستطيع من الاطلاع على هذه الرسالة أن نتبين منهج الجاحظ فى الجد والهزل حيث يذكر أن الكلام قد يكون فى لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون فى لفظ الهزل ومعناه معنى الجد، وأن الضحك فى موضعه كالقطوب فى موضعه.
إن المتعة العقلية والفنية فى الجد والهزل لدى الجاحظ تكمن فى هذه المفارقة بينهما ، إذ الهزل تنفيس عن الجد، والإنسان فى حاجة إلى التخفف من صرامة الحياة والتسلى بالفكاهة. ويبلغ الاقتدار الأسلوبى لدى الجاحظ مبلغه حين يحقق هذه المفارقة الأخرى حينما يذكر الهزل وهو يقصد الجد أو العكس إمعانا فى التصرف والاقتدار على فنون الكلام.
وقد اتضح من رسالة التربيع والتدوير هذه المفارقة فى السخرية التى تتجلى فى مبالغة الجاحظ فى تصوير محاسن من يهجوه خلافا لحقيقتها ،وإمعانا فى السخرية، وتحقيقا لهدفها.
فهو يبالغ فى جمال من وقع عليه الهجاء، وفى وصفه بالعلم وكريم الخلق وهو غير ذلك.
ومن أمثلة احتجاج الجاحظ للهجاء فى هذه الرسالة قوله: “وما فى الأرض إقرار أثبت، ودليل أوضح، وشاهد أصدق من شاهدى عليك على ما ادَّعيت لنفسك من الرفعة، مع ما ظهر من حسدك لأهل الصنعة”.
ومن الظواهر التى يتسم بها حِجاج الجاحظ إيهامه أنه مع الخصم إذ يردد دعاواه مبالغا فى الدفاع عنها، والاحتجاج لها من وجهة نظر الخصم، محققا الغاية من هذا الإيهام بين الجد والهزل. وينصح الجاحظ المدَّعى ما ليس فيه قائلا: “اجعل بدل أن تجنى على نفسك أن تجنى على عدوك، وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك”.
ذلك أن المدَّعى لما ليس فيه من الصفات الجميلة يبدو مصدقا لنفسه فى ادعائه، غير منتبه إلى ما يراه الناس فيه من عكسها فيصبح عرضة لاستهزاء الناس به، وتندرهم عليه.
ويبلور الجاحظ منهجه فى الجد والهزل كاشفا عن البعد بينهما، وكذلك فى المناظرة والجدل فيها على أنها خطان لا يلتقيان.
يقول: “ولم نر شيئا أبعد من شئ، ولا أطول له صحبة، ولا أشد خلافا ، ولا أكثر خُلطة من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء”.
ويبالغ الجاحظ فى الاستهزاء بخصمه بأسلوب فيه تمويه بالحمد والذم لا يخلو من طرافة وفكاهة فيقول: “واعلم أنِّى وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قُضِى لى عليك، ومتى ارتفعنا إلى عدلك حَسُن العفو عنى عندك” .
فكرم خصمه وعدله شاهد عليه وليس له ،والحكم سيقضى لصالح مَن يتحاكم إلى ذلك الخصم لزيف ما يتراءى من الخصم الذى لا يعرف ميزان الكرم ولا العدل.
ويأخذ الجاحظ فى الاستدلال على وجوه الحكمة والعلم والخلق الحميد لدى خصمه على سبيل التقريع فى إهاب التعظيم، والهزل فى إهاب الجد. والحق ما قاله الجاحظ وصفا لنفسه مخاطبا خصمه بقوله: “وأنت – والله يا أخى- تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الأخبار أنى أظهر منك حربا، وألطف كيدا، وأكثر علما، وأوزَن حلما، وأخف روحا، …. وأنطق لسانا، وأحسن بيانا”.
وبعد هذا الأسلوب الماضى فى البلاغة إلى أعلاها شهادة لاستحقاق الجاحظ لهذه الصفات الجميلة.
وتأتى أخلاق خصمه مناقضة لما ذكره الجاحظ من كريم الشمائل، وسعة العلم.
يقول الجاحظ مخاطبا ذلك الخصم: “تعشق المتهور، وتكلف بالجموح، وتصافى الوقاح، والأديب عندك مَن يعيب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان.. ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كل نعمة، وأنكر كل حقيقة”.
وتنتهى هذه الرسالة القيمة بدستور العلم الذى رسمه الجاحظ وقد سلك طريقه من سعى حثيث إليه، وحرص على سلوك العلماء الذين أدّبهم علمهم.
فالعلم لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة، على حد التعبير الجميل للجاحظ.
ونصائح الجاحظ للكُتَّاب نبراس هداية ونور وختام مسك بهذا الدعاء متمثلا فى قوله: “وهب الله لنا ولك الإنصاف، وأعاذنا وإياك من الظلم”. وتلك هى الرسالة السامية التي يتحلى بها أدب الجاحظ توجيها جميلا ونصحا أصيلا للأدب وسيلة وغاية للحق والخير والجمال.

