أدب

تأملات في قصيدة: الصّاحِبُ المُطْفَأُ للشاعر العُماني سعيد الصقلاوي

رؤية وقراءة بقلم:أ.د. سامية الدريدي- جامعة تونس

أولا – قصيدة: (الصّاحِبُ المُطْفَأُ)

بقلم: سعيد الصقلاوي

الصّاحِبُ المُطْفَأُ
ليس لهُ مَرْفَأُ
يُوعِدُ لكنَّهُ
يَظَلُّ يَخْتَبِئُ
لعلّهُ حالِمٌ
والحُلْمُ مُتَّكأُ
أوْ أنّهُ عاكِفٌ
أوْ أنَّهُ مُرْجِئُ
أوْ أنَّهُ سادِرٌ
أوْ أنَّهُ يَدْرَأُ
تَضيعُ مِنْ يَدِهِ
أزْمِنَةٌ تَنْشَأُ
ورَغْم طيبتِهِ
بالوَعْدِ لا يَعْبَأُ
حَديثُهُ لامِعٌ
لكنَّهُ يَصْدأُ

ثانيا – الرؤية والقراءة:

    استوقفتنا قصيدة مهمة تحمل عنوانا لافتا للشاعر العماني سعيد الصقلاوي مدارها على نوع فريد من الأصحاب حاول الشاعر تصويره بدقة متوسلا أكثر من أسلوب.
       فاعتمد النعوت (مطفا، مرجئ، سادر،لامع…)        واعتمد الإثبات تارة (الصاحب المطفا) والنفي طورا (ليس له مرفأ) واعتمد الشك حينا (لعله حالم) واليقين أحيانا (رغم طيبته بالوعد لايعبا)وقد يكثر الشاعر من الاستدراك (لكنه يظل يختبئ، لكنه يصدأ)، ومن الاحتمالات الحائرة:
أو أنه عاكف
أو أنه مرجى
أو أنه سادر
أو أنه يدرا

و قد يلتجئ الشاعر إلى الطباق ليشير إلى مفارقة تسم هذا الصاحب بين اللمعان والصدأ في قوله:
حديثه لامع
لكنه يصدأ

    هذه الأساليب المختلفة تؤكد _دون شك_ رغبة الشاعر في محاصرة ما لايحاصر، أو في وضع حد يصعب حده. فصاحب الشاعر حيره وأرهقه ،بل يبدو أنه قد عجز أحيانا كثيرة عن فهمه و إدراك كنهه.
     ونبدأ بالعنوان اللافت، فالنعت “المطفأ” يطرح أكثر من سؤال: إنه من الجذر ط.ف أو هو اسم مفعول من “أطفأ” فيكون معناه المخمد اي من أخمدت ناره وأطفا نوره ولكن مَن أخمده وأطفاه؟
    إن الصيغة الصرفية المعتمدة هنا توهم المتلقي بأن مدار النص صاحب مهمل (بنصب الميم الثانية)، متروك أو منبوذ فقد وقع عليه الفعل ليبدو الباث/الشاعر الفاعل المطلق أوصاحب القرار ، والممسك بزمام الأمور.وجاء النص في علاقة بالعنوان تبريرا لهذا القرار قرار القطيعة والنبذ. فهو صاحب لاقرار له ولا حقيقة له واضحة.

   ولذا استعار له الشاعر استعارة بليغة هي البحر الذي لا مرفأ له، تجوبه السفن فإن تعبت لم تجد له مرفأ. إنه الامتداد بلا نهاية و الماء بلا يابسة. هذه الصورة العجيبة ترفدها صورة أخرى لاتقل عنها بلاغة: هي صورة الوعد الكاذب كالبرق الخلب أو السراب اللامع .يقول الشاعر:
يوعد
لكنه يختبئ
فوعوده كثيرة لا تتحقق تبعث في النفوس أملا زائفا وتصور لها ربيعا كاذبا. والشاعر لا يجد لذلك تفسيرا، بل تلفه الحيرة وتتقاذفه أمواجه فلا يملك إلا الشك والاحتمال:
لعله حالم
و الحلم متكا
أو أنه عاكف
أو أنه مرجئ
أو أنه سادر
أو أنه يدرأ
   وهنا تلوح لنا رغبة ملحة في فهم هذا الصاحب وإدراك كنهه .فوعوده كاذبة لأنها قد تكون جزءا لايتجزأ من شخصيته الحالمة التي تكتفي بالحلم أو تهرب إليه من واقع مرير ترفضه.

   ولكنها تظل واقفة عند حدود الحلم لا تتجاوزه. أو أنها وعود لاتتحقق لاعتكاف صاحبها أي تفرغه لأمر لاينشغل بغيره. وقد لا تكون وعودا كاذبة وإنما هي مما أرجأ تحقيقه، وعندها تظل للنفس فسحة من الأمل. وأبلغ ما في هذه الاحتمالات قوله:
أو أنه سادر
     ولكن كلمة “سادر” تحمل أكثر من معنى: فالسادر من الجمال من تحير بصره من شدة الحر. والسادر المتحير. والسادر الذي لا يهتم بما يفعل. والسادر أيضا المبتعد عن الشيء ترفعا. وعندها يكون هذا الاحتمال في حقيقته كثيف المعنى أو لنقل إنه: أكثر من احتمال. فالصاحب لايفي بوعوده إما عن حيرة أوغياب بصيرة، وإما عن بعد في المكان أو الزمان و إما عن ترفع.

ويظل الشاعر حائرا لا يحسم له أمرا ولا يرجح احتمالا مما ذكرنا و حللنا. فيكتفي بإقرار طيبة الصاحب وإن بدا غير مهتم بما يفعل وهذا معنى آخر من معاني “السادر”. ونجده أيضا يقر بجمال حديث صاحبه فهو حديث مغر ممتع استعارة له من الذهب لمعانه، و لكنه جعله لمعانا لا يدوم بل للأسف يغدو سريعا صدا.

      والسؤال هنا: هل الصاحب المطفا هو فعلا المفعول به باعتباره منبوذا اخمدت في النفس ناره؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سطحا ظاهرا للنص لا يمثل حقا جوهره؟ يبدو أن الشاعر في تقديرنا هو الحائر المتحير، نراه ينشد الحقيقة ولا يدركها، يتوق إلى فهم هذا الصاحب فيعز عليه الفهم وتنأى عنه أسباب وعوده التي لاتتحقق.

      وقد يكون الصاحب استعارة بليغة لامرأة معشوقة وعندها تتأكد شعرية هذه القصيدة. فالصاحب ليس إلا في تقديرنا قناعا لامرأة معشوقة تعد و لا تفي، إنها امرأة غامضة محيرة لم تجد الذات الشاعرة إلى فهمها من سبيل.

    وإن كانت في وعودها المخاتلة لا تخرج عن صورة المرأة المعشوقة في الغزل العربي كله ألم يقل جميل بن معمر معاتبا بثينة وقلبه في آن واحد:
ما أنت و الوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم تمطر
قلبي نصحت له فرد نصيحتي
فمتى هجرتيه فمنه تكثَّري

     من هنا تتأكد شعرية النص في قول ما لايقصد إليه، ومخاتلة المتلقي وإيهامه بالحديث عن صاحب منبوذ خمدت صداقته والحال أن القصيدة غزلية تنبض عشقا و تقطر عتابا.
وعموما أيا كان قصد الشاعر صاحبا أوحبيبة فإن جمالية القصيدة تكمن في انفتاحها على إمكانات تاويلية متعددة وبذلك تكون هي الأخرى قصيدة غامضة محيرة ولكنها مستعصية عن الإهمال فلا تخمد نارها ولايطفأ نورها كالصاحب المذكور، بل تظل متوقدة في ذهن المتلقي وقلبه تثير فيه أسئلة شتى وفي ذلك لعمري منتهى الإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى