لبنان ومصالحات مصر و سوريا والسعودية والعراق
توفيق شومان | إعلامي وفكر سياسي لبناني
أكثرية الناشئة اللبنانية ترى في الواقع اللبناني المقيت امتدادا لزمن سياسي مضى لم يعرف لبنان عنه بديلا ولا تبديلا، ويغذي هذه القناعة الدميمة والمشوهة استمرار الإستعصاء السياسي الذي يجفف احتمالات الخروج من المعضلات الراهنة ، غير أن مراجعة ما كان عليه لبنان، ستُظهر لبنانا آخر رائدا وطليعيا في مختلف المجالات ومنها المجال الدبلوماسي الممتد من عام استقلاله حتى سنة خرابه عام 1975، وتحفل الدبلوماسية اللبنانية بالوقائع التالية:
ـ عقد الأربعينيات: يروي رئيس الحكومة اللبنانية الراحل حسين العويني “في خواطر سياسي” كيفية إسهام القادة اللبنانيين بإقناع المملكة العربية السعودية بالإنضمام إلى جامعة الدول العربية ، فيقول:” برزت في البلاد العربية فكرة تأسيس جامعة الدول العربية، لكن رجلا واحدا تمهل وأطال التمهل والسكوت ، ذلك الرجل هو الملك عبد العزيز آل سعود ، وكان رياض الصلح على رأس الحًكم عندنا، فدعاني يوما وأسرً لي بما يساوره من مخاوف إن بقيت المملكة العربية السعودية خارج الجامعة ، واستقر رأينا أن اذهب إلى الرياض فأهيء الجو لمجيئه ، وتهيأ الجو في نيسان / ابريل 1949، بدأ جلالة الملك حديثه: هات ما عندك، فقال رياض : تعلمون ما وصل إليه العرب من تفكك وتضغضع، تدور الآن مشاورات حول تأسيس جامعة للعرب ، وأنتم أول من يغار على العرب ومصالحهم، فقال الملك أنا لا أريد أن يقال إن عبد العزيز خرج عن الإجماع وكان السبب في عدم إخراج الفكرة إلى حيز الوجود، إذهبوا واعملوا وأنا جندي من جنود العرب “.
في الواحد والعشرين من آذار / مارس 1949 استضافت العاصمة اللبنانية بيروت مؤتمر ” لجنة التوفيق ” الخاص بالقضية الفلسطينية ، وتحدد ” الموسوعة الفلسطينية ” مهام هذه اللجنة بالقول :
“على أثر الاضطرابات الدامية التي وقعت نتيجة لقرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة أصدرت هذه الجمعية قرارا فوضت بموجبه إلى وسيط سلطة القيام بالخدمات العامة الضرورية لسلامة سكان فلسطين وتأمين حماية الأماكن المقدسة وإيجاد تسوية سلمية ، قامت اللجنة بتسمية الكونت برنادوت ـ اغتالته سلطات الإحتلال الإسرائيلي ـ وتضمن تقرير برنادوت أن عرب فلسطين لم يغادروا ديارهم طوعا بل نتيجة لأعمال العنف والإرهاب التي قامت بها السلطات الإسرائيلية، وانتهى إلى أن قضية فلسطين لا يمكن حلها إلا إذا أتيح للاجئين العودة إلى ديارهم، وقد استندت الجمعية العامة إلى هذا التقرير فأصدرت قرار تشكيل لجنة ثلاثية تدعى لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين، تشكلت لجنة التوفيق من فرنسا وتركيا والولايات المتحدة وباشرت عملها بأن دعت الحكومات العربية إلى مؤتمر عُقد في بيروت يوم 21ـ 3 ـ 1949وفيه عرضت الوفود العربية آراها ومواقفها “.
عن هذه اللجنة تحدثت صحيفة ” البعث ” الفلسطينية (10ـ3 ـ 1949) فقالت ” شرقي الأردن وسوريا بعد لبنان توافقان على دعوة لجنة التوفيق لحضور مؤتمر بيروت ، وأعلن سعادة عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية بأن موعد اجتماع مجلس الجامعة سوف لا يُحدد قبل أن تبت الحكومة المصرية في مسألة الإشتراك في مؤتمر بيروت، ولا تزال المشاورات تدور بين الحكومة المصرية والحكومات العربية بشأن السياسة التي ستتبع في أربع أو خمس مسائل كمسألة القدس وعودة اللاجئين والحدود وغيرها “.
وقالت ” البعث” في الخامس عشر من آذار / مارس 1949″ قدمت الهيئة العربية العُليا مذكرة إلى لجنة التوفيق في بيروت تدعوها إلى إدراك خطورة الموقف الحالي في فلسطين وأقطار الشرق العربي، وهابت المذكرة باللجنة أن تقدر الحيف والظلم اللذين حلا بعرب فلسطين ودعتها إلى إلغاء قرار التقسيم وإعادة فلسطين إلى وحدتها وتحقيق حريتها واستقلالها وفقا للمبادىء الديموقراطية التي يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة ، وتقول المذكرة إن مشكلة اللاجئين في مقدمة الكوارث التي نشأت عن قرار التقسيم ، وذكر راديو القاهرة أن لجنة التوفيق تفكر بنقل مقرها من القدس إلى العاصمة اللبنانية ” .
في مجال دبلوماسي آخر يعود تاريخه أيضا إلى عام 1949 وحيث شهدت العلاقات المصرية ـ السورية خصومات ونزاعات ، تصدت بيروت لتفكيك عقدة النزاع بين القاهرة و دمشق ، كيف جرى ذلك ؟
على رأس الصفحة الأولى لصحيفة ” الجزيرة ” الأردنية الصادرة في التاسع والعشرين من آب / أغسطس 1949 الخبر التالي ” الرئيس اللبناني يحث ملك مصر على الإعتراف بالوضع السوري ” وفي تفاصيل الخبر ” أن الحكومة اللبنانية باتت تخشى من أن الإضطراب الذي عمً الشؤون العربية قد يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية إلا إذا استطاع العرب تدارك ذلك ، وأًعلن في بيروت أن فخامة الشيخ بشارة الخوري بعث برقية إلى جلالة الملك فاروق يحثه فيها على الإعتراف بالوضع الجديد في سوريا ، وصرًح دولة رياض الصلح بأن الدكتور ناظم القدسي وزير خارجية سوريا قد طلب منه التوسط بين مصر وسوريا قبل أن يتسع بينهما الخرق الذي نشأ عن مصرع حسني الزعيم “.
وشرحت صحيفة ” الجزيرة ” الأردنية ( 1ـ 9 ـ 1949) آلية العمل اللبنانية بالقول ” لاتزال رحلة الأستاذ كميل شمعون إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وسمو الأمير فيصل موضع تعليقات كثيرة ، وتعتقد الأوساط السياسية أن غاية المقابلة إقناع الجانب السعودي بالتوسط لدى مصر لتعديل موقفها من سوريا ، وقد أيد دولة رياض الصلح هذا المسعى “.
وفي عددها التالي (2 ـ 9 ـ 1949) أوردت “الجزيرة” النتائج التي أثمرتها الدبلوماسية اللبنانية وأشارت إلى برقية وردت من دمشق وأحاطت السوريين علما ب ” اعتراف مصر والمملكة السعودية بالحكومة السورية الجديدة ، وقد انتشر هذا الرأي على أثر وصول السيد ناظم العكاري الأمين العام للوزارة اللبنانية إلى دمشق واجتماعه بدولة السيد هاشم الأتاسي وتسليمه تقريرا مفصلا من دولة السيد رياض الصلح، والمفهوم أن هذا التقرير يتضمن نتيجة المحادثات التي دارت مؤخرا بين جلالة الملك السعودي ومعالي السيد كميل شمعون “.
ـ عقد الخمسينيات: بالوصول إلى عقد الخمسينيات، كانت العلاقات السعودية ـ العراقية قد وصلت مبلغا من التأجج جراء تداعيات الخصومة التقليدية بين العائلتين السعودية والهاشمية، وفي “خواطر سياسي” يتحدث الرئيس حسين العويني عن “لبناني كبير” يتحاشى إيراد إسمه ، قام بدور الوساطة بين الرياض وبغداد وجاء في سرده للتفاصيل: “في آوائل سنة 1953 هيأت الأسباب لزيارة لبناني كبير إلى المملكة العربية السعودية، وكان الغرض الظاهر من هذه الزيارة الرغبة في التعاون والبحث في قضية فلسطين ، والواقع أن الغرض الحقيقي محاولة لإزالة سوء التفاهم بين العائلتين السعودية والهاشمية، اختلى الملك عبد العزيز باللبناني الكبير وكان لي الشرف بأن أكون ثالث اثنين في تلك الخلوة وبدأ اللبناني الكبير حديثه: “ـ اللبناني الكبير : يا جلالة الملك الخلاف القائم بينكم وبين العائلة الهاشمية ليس فيه مصلحة للعرب ولا يجوز أن يدوم .
ـ الملك عبد العزيز: إسمع يا أخي سأعطيك ما عندي بكل صراحة ، رغبتي إزالة كل أثر يمكن أن يكون قائما في نفوسهم ، ليس لي أي مطمع في ضم أي بلد إلى بلادي .
ـ اللبناني الكبير: هل يسمح جلالة الأخ في أن أكون الواسطة في إزالة سوء التفاهم بينكم وبين الهاشميين ؟
ـ الملك عبد العزيز: لستُ أرضى أن تكونوا الواسطة بل أرضى أيضا أن تكونوا الحكم “.
وحصيلة هذا الجهد للدبلوماسية اللبنانية كما يرويها حسين العويني ” زار ولي العهد السعودي ـ سعود بن عبد العزيز ـ لبنان في نيسان / إبريل 1953 وكان موعد تتويج الملك فيصل الثاني في بغداد غدا قريبا ، فرأى اللبناني الكبير في هذه المناسبة مدخلا وخيرا ، وتقبل ولي العهد فكرة حضوره حفلة التتويج ، ووجًه البلاط العراقي من ناحيته الدعوة إلى ولي العهد سعود لحضور الحفلة “.
لم ينقض عقد الخمسينيات من القرن العشرين من دون إنجاز دبلوماسي لبناني فوق العادة أكثر من حفظه وسجله للتاريخ هم المقربون من الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر، وفي طليعتهم محمد حسنين هيكل الذي يتحدث في كتابه ” كلام في السياسة ” عن دور رجل الأعمال والسياسي اللبناني إميل البستاني في وقف “العدوان الثلاثي ” على مصر عام 1956 وإسهامه الكبير في خسارة بريطانيا لمعركتها السياسية بعدما خسرت معركتها العسكرية على شواطىء مدينة بور سعيد المصرية .
ـ القسم الثاني : المبادرات الوفاقية اللبنانية في الأردن واليمن وحرب فيتنام