فكر

التمهيد إلى فلسفة التوحيد

أجدور عبد اللطيف | المغرب

يغشى منذ القدم ما يغشاهم من التساؤلات التي تتبع الحدود بين العالمين المشهود والغيبي، على ما في هذا التفصيل من تفصيل، وعلى ما في هذه القضية من شغب وشتات ذهب فيه الفلاسفة والمفكرون أيما مذهب

ولعل المؤمن بوجود إله قدير عليم كامل المشيئة، يتماهى مع القانون الذي جعله من خلق الخلق للخلائق، وهو الكوجيطو الخالد : لا إله إلا الله.. أربع كلمات تفند الأخيرة منها تلك التي قبلها في هذه العبارة وكذا عبر التاريخ، ولعل هذا القانون الذي تلهج به نفس المصدق بالحق خمس مرات يوميا عند إقامته الصلاة للمعبود، ونصيخ إليه السمع عندما ينطلق ليعانق الوجود والسهود يحمل في ثناياه معاني كثيفة

لكن متى يسري مفعول هذه القاعدة النورانية، وينفذ موعودها، إن ذلك يتحقق عندما يكون التصديق بهذه الكلمات الذهبية صادقا على الفهم الصحيح بالسلوك المترتب عليها، فنفي ألوهية غير الله لا تقصي فقط هبل وبوذا وبوسيدون وثور وأفروديت وآمون، بل إنها تفيد نفي الألوهية عن الرغائب والمطالب والمثالب التي تلح بها النفس، وعن الخوف من الشرطي أو الوزير أو رئيس الجمهورية أو من الأمين العام المتحدة أو كيم أون، إنها تضحد قدرة الإذاية عن النشال والسفاك والمجرم والطاغية والظالم والعدو، وتجرد الانفلونزا والسكري وضغط الدم وفقدان المناعة المكتسبة والإكتئاب تجردها جميعا من جبروتها ما دامت بيد الجبار.

تحرر كلمات التوحيد العقل وتطلق سراح الروح من سجن التهديدات من عجز وفشل وقتل واغتيال وتعذيب فكل شيء ينال المرء كان سابقا في علم ومشيئة الله حدوثه، يقول مبعوث الواحد عليه زكيات الصلوات والسلامات : ولتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ” فكل شيء لحكمة كشفها للخلق، ينفي منطق الابتلاء الذي قام عليه ناموس الكون.

تبعث معاني كلمة التوحيد في النفس شجاعة تجاه الوجود والموجودات، شجاعة اكتشافٍ وتفاعل وصبر وإقدام واحتكاك وتعلم وإبداع ونضج، تنفخ روح إثراء واغتناء،إذ لا ترى نفعا ولا أمانا في التواري والانكفاء، ولا اطمئنانا في الحرص والانزواء، بل إن تجارب الحياة تخبرنا أن المبالغة في الحرص على تفادي شيء تعجل بوروده، والتفويض للملك المالك بكل شيء تورث سلامة وعافية وتحملا وجلدا وعزيمة باقية.

لقد افترض ميخائيل نعيمة وإرنست همنعواي ونيتشه وسارتر وفان كوخ وفولتير أن هذا العالم هو الجنة الوحيدة الممكنة، وأن الخالق وهم، وانتهى بهم الأمر في شرود مقيت، وفي تيه مميت.. فجن البعض وانتحر البعض وعاش البعض عمرا يشكو ويتذمر لأن المثالية المطلوبة في الجنة الموهومة هذه غير ممكنة والفراغ السحيق للنفس لا يملأه غير التوحيد، والشتات الصفيق للقلب لا يجمعه غير من وضع لما أبدع هذه المعادلة البسيطة، التوحيد يوحد الروح ويجمع أجزاءها لتكتمل لوحة البوزل في منظر أنيق.
فلا إله إلا العالم بالمكان وبما كان ومما يكون، وبالحق الصرف وبالظنون، وبما تجلى من الأسرار وبالمخبوء المكنون، لا إله إلا هو موجد الحركات والحوادث وموحد السكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى