النافذة المفتوحة والنمو الحقيقي

بقلم: د. هبة محمد العطار
أستاذ الإعلام بجامعة سوهاج وجامعتي أم القرى والملك عبد العزيز سابقا
النافذة المفتوحة على الحقيقة
في داخل كل إنسان، بيتٌ غامض تسكنه الذات. بيت ليس من طينٍ ولا حجر، بل من التجارب والذكريات والمخاوف والأحلام. جدرانه تُبنى من لحظات الصمت الطويلة، وسقفه يمتد حتى حدود الإدراك. لكن مهما أُغلقت أبوابه بالإنكار، ومهما أُسدلت ستائره بالزيف أو التبرير، تظل هناك نافذة مفتوحة دائمًا تطل على الحقيقة.
هذه النافذة ليست مادية، بل هي وعيٌ خالص. إنها تلك اللحظة التي يلتقي فيها الإنسان بنفسه دون أقنعة، حين يتوقف ضجيج الخارج، ويصبح الصوت الداخلي أكثر صدقًا من أي صوتٍ آخر. هناك فقط نرى ما نحن عليه حقًا، لا ما نحاول أن نبدو عليه أمام الآخرين.
بعضهم يخاف النظر من تلك النافذة، لأن الحقيقة مؤلمة. فهي لا تجامل، ولا تُزيّن القبح، ولا تُخفي الضعف. لكن الشجاعة الحقيقية ليست في إغلاق النافذة، بل في الوقوف أمامها كل مرة، والنظر في المرآة التي تعكسها، وقبول ما نراه كما هو.
قد نحاول أن نُبدّل المشهد أحيانًا، نغيّر الستائر، نُعيد ترتيب الأثاث النفسي، نحاول إقناع أنفسنا أن الضوء الداخل من تلك الفتحة مجرد خداعٍ بصري… لكن الحقيقة لا تُخدع. إنها تأتي بهدوء، ببرودة نسمةٍ تتسلل كلما تحركت الستارة، لتذكّرنا أننا مهما تهرّبنا، فثمة نافذة في داخلنا لا تُغلق.
في بيوت الذات، تلك النافذة هي موضع الخلاص. لأنها المنفذ الوحيد الذي يُطل منه الإنسان على ذاته العميقة، على الله، على جوهر الوجود. من خلالها نتعلم الصدق مع النفس، ونفهم معنى الحرية الحقيقية: أن نرى ما نكره دون أن نهرب، وأن نحب ما هو ناقص دون أن نخجل.
كل روحٍ ناضجة تعلم أن الحقيقة ليست عدوًّا، بل رفيقة طريق، وأن النافذة المفتوحة لا تفضحنا بقدر ما تُنيرنا. فهي لا تُظهر ما فينا من ظلال، إلا لتدلّنا على مواضع النور.
وهكذا، كلّما نظرنا من تلك النافذة، اكتشفنا أن بيوت الذات ليست سجونًا كما كنا نظن، بل عوالم من الضوء تنتظر أن نتجرأ على فتح أعيننا.
النمو الحقيقي
النمو لا يصدر ضجيجًا، لكنه يغيّر كل شيء.إنه تلك الحركة الهادئة التي تجعلك لا تشبه الأمس، وتجعل الأشياء التي كانت تُرضيك لا تعنيك بعد الآن.، ومع هذا التغيّر، يبدأ ميزان العلاقات بالاختلال، لا لأنك أصبحت قاسيًا أو متعاليًا، بل لأنك تجاوزت مرحلة لم يعودوا فيها قادرين على اللحاق بقلبك وروحك.
في كل دورة من دورات الحياة، يسقط من لم يعد منسجمًا مع ترددك الداخلي كما تسقط الأوراق اليابسة من الشجرة حين يجيء الربيع، ليست خيانة من الشجرة، بل إعلانًا أن الحياة تمضي نحو تجدد آخر، كذلك نحن، لا نحتاج إلى تمزيق الروابط بحدة، فالنضج كفيل بأن يفرز من كان وجوده قائمًا على الحاجة، لا على الجوهر.
النمو الحقيقي لا يخلق صراعات، بل يضيء المسافات.
حين تشرق روحك، ينكشف حولك من كان يعيش في ظلك لا معك، ومن كانوا يُمسكون بك خوفًا من وحدتهم سيجدون أن يدك لم تعد متاحة لأنك لم تعد تقف في نفس المكان، إنها حكمة الزمن، ألا تفسد سلامك بمحاولات البقاء في دوائر ضاقت عنك، وأن تمنح نفسك حق النمو دون خوف من الفقد، فكل ما يسقط أثناء صعودك لم يكن يومًا جزءًا منك، بل كان عالقًا بك.
ليس كل سقوط خسارة، ولا كل غياب فراغًا.
أحيانًا يكون السقوط ترتيبًا خفيًّا للسماء لتخفيف ما لا يُرى. من يسقط من حياتك لم يُنتزع ظلمًا، بل اكتملت وظيفته في رحلتك، وانتهى دوره في حكايتك، السقوط الجميل هو ذاك الذي لا يحمل ضغينة ولا رغبة في الانتقام، بل وعيٌ بأن التغيير لا يجرّ خلفه إلا من اتسع له القلب.
إنها لحظة التسليم الهادئة التي تدرك فيها أن بعض العلاقات لم تكن تنتمي للعمق، بل لزمنٍ معين، وحين انتهى زمنها ذابت كما يذوب الضباب عند أول ضوء، في فلسفة الحياة، ليس كل بقاء وفاء، ولا كل رحيل خيانة. البعض يبقى لأنه لم يجرؤ على الرحيل، والبعض يرحل لأنه أدرك أن البقاء ضدّ النموّ، وهنا لا يعود الفقد مؤلمًا، بل يصبح شكلًا من أشكال النضج حين تتعلم أن تُودّع دون أن تكره، وأن تُغلق الباب دون ضجيج.
السقوط الجميل أن تترك ما لم يعد يشبهك بابتسامة، وأن تعرف أن نضجك لا ينتظر أحدًا، وأنك لا تحتاج لتبرير التغير لمن اختاروا الثبات في مكانهم، فالحياة لا تُعاقبنا بالرحيل، بل تُكافئنا بالوضوح. يأتي يوم لا تفرح فيه كثيرًا ولا تحزن كثيرًا، لا تندم على من رحل، ولا تتشبث بمن بقى ، يومٌ تدرك فيه أن السلام ليس أن تمتلك كل شيء، بل أن تفهم أن ما كُتب لك لن يحتاج حربًا لتحتفظ به.
سلام ما بعد النضج هو أن تهدأ دون أن تنطفئ، وأن تصمت دون أن تنكسر، وأن تبتسم لأنك عرفت المعنى لا لأن الحياة كانت عادلة. إنه الوعي الذي لا يُحدث صخبًا، بل يُنير داخلك كشمعة لا تُريد أن تُقنع أحدًا بضوئها ، في هذا السلام لا تبحث عن البدايات ولا تلاحق النهايات، فقط تمشي في المنتصف بثقة من جرّب السقوط وخرج منه أكثر اتزانًا، وتدرك أن الحياة لا تُمنح لمن يُطالب، بل لمن يتقبل، وأن أعظم انتصار هو أن تبقى رقيقًا بعد كل ما قساك.



