ثورة في ميدان الضمير
د. طارق محمد حامد| أكاديمي مصري
فما أحوجَنا إلى ثورةٍ على استبداد النَّفْس وتسلُّطِها على الضمائر، كما تفجَّرَت الثورات في واقعنا على الظُّلم والاستبداد، والغَبْن، وكَبْت الحرِّيات، ومُصادرة الرأي!
وهذه الثورة هي ثورةُ بِناء، وثورة تؤطِّر عهدًا جديدًا في ميدان الضمير، يقتلع كل ما من شأنه أن يشوِّه الوجدان مِن الداخل، والسُّلوك من الخارج، والرؤية الصحيحة التي تنطلق من الواقع، وتستشرف المستقبل بكلِّ ثقةٍ وإيجابيَّة وتفاؤُل، ثورة تَجْتاح رواسِبَ عهدٍ غابر، فتخلِّفه زبَدًا رابيًا، وتشعل حرارة التَّغيير على المعدن الأصيل، فتحيله ذهبًا خالصًا، ثورة تبني إنسانًا خالِصَ القلب والعقل، خالص التصوُّر والشعور، خالص التكوين، وهذا دورُنا نحن مع أنفسنا في ميدان ضمائرنا، وذلك من خلال مراحل ثلاثٍ متراكبة، بعضها فوق بعض، لا تنفكُّ إحداها عن الأخرى، متكاملة، تشكِّل الوجدان من الداخل، وتربِّي الضمائر، وتُلْقي بظلالها الوارفة على السُّلوك، وتضفي على الجوارح نضرةَ الضمير.
1- نضارة الضمير:
وهذا هو لُبُّ الحياة أن ينشد الإنسانُ الكمال في نقاء جوهره، وتخليص إبريزه، فيصير ذهبًا خالصًا، سائغًا لتشكيله كيفما شاء، والتفرُّد في التَّصوُّر والشُّعور والتكوين سمةٌ من سمات السالكين في هذا الدَّرب الشاقِّ، كما تفرَّد الجيل الربانيُّ؛ جيل الصحابة الأفذاذ.
فهُم قد خلصت ضمائرهم، فكان النَّبع القرآنِيُّ الصافي مصدرًا للتلقِّي بلا منغِّصات فكريَّة، وأيديولوجيَّة أخرى، تعكِّر هذا النبع الصافي، وكان التلقِّي عندهم للعمَل والتنفيذ، لا لزيادة الزَّخم الثقافي لديهم، ولا للجدَل العقيم، كما نحن عليه الآن!
وإذا أرَدْنا أن نصلَ إلى هذه الدَّرجة من التفرُّد والرقيِّ في التصوُّر، والسمو في الأهداف والغايات التي تولِّد التميُّز في التكوين والسُّلوك؛ فلا بدَّ أن نحذو حذْوَهم، ونسلك طريقهم في تغيير المخبر، والعمل على نَضْرتِه ونقائه، وإنه لشاقٌّ جِد شاقٍّ؛ لأنَّ هناك رواسِبَ الماضي، وإلْفَ العادة، وملامساتِ الواقع، ومكوِّناتِ الضعف البشري، وجواذِب الميول الطبيعيَّة، تحتاج منَّا – في طريق التغيير وتقويم السُّلوك ونضارة الضمير – إلى ثورةٍ في ميدان ضمائرنا، ولا بدَّ لنا من رصيدٍ إيماني دفَّاق، واتِّصال قوي بالله – عزَّ وجلَّ – يحمي من السُّقوط والنُّكوص عن مبدأ الإصلاح، ومواصلة الطريق لنهايته المنشودة.
وهذا الأمر حَلْقة من حلقات الصِّراع الداخليِّ بين الحق والباطل في ضمير كلِّ إنسان، بل هو سلسلةٌ متَّصلة الحلقات غير محدَّدة المعالِم والنتائج، متشعِّبة الوسائل، مضمونةٌ في ثوابها من الله العزيز العليم إذا صدق التوجُّه، وهي في النهاية تهدف إلى إقامة عالَمٍ ربَّاني خالص في ضمير المسلم.
2- نضارة السُّلوك:
التوحُّد في الشُّعور والتوجُّه، والمكوث على اعتقادٍ واحد، والعمل المضني، ومجاهدة النفس المستمرَّة يعمل على استصفاء النَّفس وتخليصها من رغائب النُّفوس وأهواء القلوب، وينقِّيها من الكبرياء والتشوُّهات النفسية، ويجرِّدها من كثيرٍ من ذوات الصُّدور.
ووسائلنا في تصحيح السلوك هي العودة إلى النَّبع الصافي، والاستِقاء منه، والنهل من مَعِينه، كما فعل آباؤنا الأوَّلون، ونخوض معارك وثوراتٍ لِتَغيير هذا الواقع المرير في مجتمعنا، وننسج سترًا جديدًا نلفُّ به ما تَهتَّك من سُتورنا بيننا وبين الله، وبيننا وبين أنفسنا، إنَّها لمعركة حامية الوطيس، وطريق طويلة، وسوف يتساقط فيها كثُر، وسوف تكون الفاتورة التي سندفعها باهظةً، ولكن حينها تكون قد تطهَّرت النفوس، وزكَت القلوب والأرواح، وحينها لن نحتاج في تقويم السلوك إلى رادعٍ، ولا إلى الانتهاء عن الشَّطط في الحُدود إلى تطبيق الحدود والتعزيرات؛ لأنَّ الرِّقابة هنا قد قامت في الضمائر، ورجاء المثوبة، والسعي إلى الأجر من الله – عزَّ وجلَّ – وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات.
وأبلغ مثالٍ على ذلك: المرأة الغامديَّة التي جاءتْ للنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليطهِّرها من حد الزِّنا وهي حُبْلى منه، قال لها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبي حتَّى تضعيه))، ثم ((اذهبي حتَّى تفطميه))، ثم جاءت وبِيَد الصبيِّ كِسْرة خبز؛ دليلاً على فطامه، فشدَّ عليها ثيابها، ووضعت في حفرة، ثم رجمت حتَّى ماتت – رضي الله عنها – وقال عنها رسول الرحمة – صلَّى الله عليه وسلم -: ((والله لقد تابَتْ توبةً لو وُزِّعت على أهل المدينة لوسِعَتْهم))، فترة طويلة تتهاوى فيها النُّفوس، وتتساقط فيها الضمائر، ويتشبَّث فيها المتشبِّثون بحبائل الدُّنيا المتهتِّكة.
وفي ميدان تحرير النُّفوس، وتقويم السُّلوك إذا ما نقَّبنا في أغوارنا وواقعِنا؛ فسنَصْطدم بواقعٍ مرير في مُمارساتنا المعوجَّة في التعاطي مع شؤوننا الخاصَّة والعامة، فسنجد أننا بحاجةٍ إلى ثورةِ تصحيحٍ؛ لإزالة رواسب غليظة من المحسوبيَّة والبيروقراطيَّة، والتراخي في العمل، والعزوف عن الإحسان في التخصُّص، والانجراف في سيل العموميَّات، وظاهرة التعدِّي المِهْني، والقفز البغيض على كلِّ مهنة؛ بغرض تحصيل أكبر قدرٍ من المادة؛ مما يؤدِّي إلى الميوعة في التخصُّص، وتكون نتائجه عاريةً من الإتقان والإجادة، وانحسار مدِّ الحضارة والعلم، ويكون هذا نذيرَ شؤمٍ في إجهاض أيِّ مشروع نهضوي تسعى إليه الأمَّة.
وهذا بعينه ما دعا إليه النبي – صلى الله عليه وسلَّم – في الأخذ بالتخصُّص بقوَّة، حينما أثنى على كلِّ واحد من الصحابة – رضوان الله عليهم – لإجادته وتفوُّقه في تخصصه؛ فقال: ((أنسَبُهم أبو بكر، وأفرَضُهم زيدٌ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذُ بن جبل، وأقرؤهم أُبَيُّ بن كعب، ولكلِّ أمَّةٍ أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح))، وندَبَ زيدَ بن ثابت لتعلُّمِ السريانية لغة يهود، فتعلمها في سبعة عشر يومًا، وأثنى على خالد بن الوليد؛ لتفوُّقه في فنون الحرب، فقال عنه: ((سيفٌ مِن سيوف الله))، وخطة خالد في الانسحاب بالمسلمين في معركة مؤتة، والانْحِياز للفئة المؤمنة في المدينة ما زالت تُدَرَّس في معاهد الغرب العسكريَّة؛ دلالةً على عبقريَّة خالد العسكرية، كما يقول الأستاذ العقَّاد في “عبقرية خالد”!
ونحن هنا بصدد ثورةٍ في السُّلوك انبثقَتْ من ثورة الضمير، نحن بحاجة إلى إتقان فنِّ الحوار، وفن الاختلاف، وقبول الرأي الآخر، والتخلِّي عن ازدراء الآخَر، وتَسْفيه الآراء، واتِّخاذ خطوة إيجابيَّة في تقبُّلِها ومناقشتها، أو الاختلاف معها، ولكن في جوٍّ من الأُلْفة والمودَّة والأخوة، كما يقول الإمام الشافعيُّ – رحمه الله -: “رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يَحْتمل الصواب، وما جادلَني أحَدٌ في مسألة إلاَّ تمنيتُ أن يُظْهِر الله الحقَّ على لسانه، أو على لساني”، وهكذا يجب أن نكون؛ ضميرٌ سليم، وخُلق قويم، ورؤية واضحة صحيحة تقودنا إلى قيادةٍ ربَّانية وثَّابة؛ لريادة العالَمين من أُمَّة رسول ربِّ العالمين، رحمة وهداية، وقدوة ورشاد، تنطلق من ميدان الضمير.