فكر

مَاهِيَّةُ الإِنْبَاءِ الكَوْنِيِّ: وذَاكَ إِحْرَاقُ المُقَدَّسِ وذَاكَ إِهْرَاقُ المُدَنَّسِ؟ (1)

د. آصال أبسال| أكاديمية وإعلامية

كوبنهاغن (الدنمارك)

(1)

     قبل كل شيء في هذا، لا بدَّ من التأكيدِ على حقيقةٍ قميئةٍ لا يجرؤُ حتى على التلميحِ إليها الكثيرُ الجمُّ من الكتَّاب الصحافيين والمعلقين الإعلاميين والبحثاء الجامعيين، ناهيك عن عين الإعراب عنها بالحرف والحذفار، ألا وهي: حقيقةُ أن الدول الغربية الأكثر عنصريةً وكراهيةً بإزاء العرب والإسلام تحديدا في العالم بأسره إنما هي الدول الغربية التي تتفاخر على الدوام وعلى الملأ بأنظمتها «الديمقراطية» حسب إوالياتها ومآلاتها المعهودة، والتي تتفاخر كذلك بممارسة الحريات المتاحة عامة لمواطناتها ولمواطنيها على اختلاف أحوالهم وآمالهم في كافة مناحي الحياة اليومية، وعلى «ائتلاف» كل من الصُّعُد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المقام الأول.. وفي مقدمة هذه الحريات المتاحة خاصة تتجلَّى ما يُطلقون عليها حَمِيَّةً وحماسًا بعبارة أولى باسم «حرية الكلام» Freedom Of Speech، أو حتى بعبارة أخرى باسم «حرية الرأي» Freedom Of Opinion، أو حتى بعبارة أخيرةٍ، لا آخرةٍ، باسم «حرية التعبير» Freedom Of Expression، وسواء كان هذا الكلام وهذا الرأي وهذا التعبير شفاهيًّا أم كتابيَّا أم غير ذلك من الوسائل الورقية القديمة والرقمية الحديثة.. ويطيب لي، في هذه القرينة، أن أبدأ الحديثَ بالذكرِ إشارةً على الأقلِّ إلى تلك الدول الغربية التي خبرتُها شخصيَّا وعشتُ فيها حياتيًّا و/أو نشأتُ فيها دراسيًّا لفتراتٍ من الزمانِ كفيلاتٍ بأن أطلقَ أحكاما يقينيَّةً، أو حتى شبهَ يقينيَّةٍ بأدنى تخمينٍ، وابتداءً من الدول الإسكندنافية مثل الدنمارك والسويد والنرويج، وليس انتهاءً بالدول الاستعمارية التقليدية مثل إنكلترا وفرنسا وكذلك أمريكا (وريثةِ جلِّ الاستعمار الأوروبي هذا بعد الحربين العالميتين)، ولا حتى انتهاءً نهائيا بالدول النازية أو النازية الجديدة مثل ألمانيا (ربيبةِ الانحيازِ الخفيِّ لإسرائيل وإلى حدِّ تغافلِ فرعِ «العَفْوِ الدُّوَلِيِّ» Amnesty International فيها خاصَّةً عن انتهاك هذه الـ«إسرائيل» لحقوق الشعب الفلسطيني).. أقول ها هنا بكل صراحة وجلاء إن أسوأ أشكال العنصرية والكراهية بإزاء العرب والإسلام تحديدا إنما تتجلى في هذه الدول الغربية كلِّها دونما الاستثناءِ بالذات والذوات، وعلى تفاوتٍ نسبيٍّ من درجاتها «المثلى» في المأتاةِ والمدعاةِ، إذ ترى حتى المواطن العادي البسيط في أي من هكذا دولٍ غربيةٍ (ولكنْ، يُستثنى ذلك النزرُ النزيرُ من الواعين من مواطني ومواطناتِ كلٍّ منها، بطبيعة الحال)، إذ تراهُ لا يأتيك إلا بالنَّفَس العنصري والكراهي المعني إتيانًا عامدًا متعمِّدًا، بلا أيِّما سابقِ إشعارٍ ولا حتى أيِّما آنفِ إيماءٍ بتاتًا– فها هو مذَّاك يُعَبِّرُ عن نَفَسٍ كهذا بالكلام الحرفي أو المجازي حين يَنِطُّ نَطِيطًا تصريحيًّا سافرًا، من طرفٍ أول، وها هو يُعْرِبُ عنه كذاك بـ«اللاكلام» على النقيضِ حين يَنِزُّ من مَسَامِّ جلدِهِ سُمًّا سُمًّا نَزِيزًا تضمينيًّا مُسْتَتِرًا، من طرفٍ آخرَ.. أقول هذا بكلِّ صراحةٍ وجلاءٍ كذاك تذكيرًا مُلِحًّا مِلْحَاحًا بما يفعلُهُ أولئك البحثاءُ الجامعيون المنافقون بمدى انتقائِيَّتِهِمْ والمُسْتَرِقُّونَ لميداءِ ماهيَّتِهِمْ سَعْيًا وراءَ التَّبَوُّءِ والتَّمَلُّكِ العُصَابِيَّيْنِ لنوع «المَرْهَصَةِ» الأكاديميةِ في ظَنِّهِمْ، كمثل ذلك الباحث الجامعي جلبير الأشقر الذي يدَّعي مرارًا وتكرارًا بأنه ناشط تقدُّمي «ماركسي» أو حتى «أممي»، والذي لايني يتشدَّق بما يبدو «نضالًا» مضادًّا لأشتات الإمبريالية بـ«كلِّيَّتِها» وبـ«كافَّتِها» تشدُّقًا مسطَّحًا تحت الاصطلاح الشِّعَارِيِّ المصطنَع «اللاإمبريالية» Anti-Imperialism، ولكنه لا ينتقي من هكذا «نضالٍ» بَتًّا، في واقع الحال، إلا كلاما أو رأيا أو حتى تعبيرا لا يهدِّد قطُّ بقائيَّةَ ذينك التَّبَوُّءِ والتَّمَلُّكِ العُصَابِيَّيْنِ لنوع «المَرْهَصَةِ» الأكاديميةِ في ظَنِّهِ تحديدًا..

   اجتماعُ نفاقيَّةٍ وانتقائِيَّةٍ «أكاديميَّتين» كهٰتين، إذن، إنما ينطوي، من حيث المبدأ ولا ريب فيه، على اجتماعِ وُصُوليَّةٍ وانتهازيَّةٍ مترسِّخَتَيْنِ في ذهنيَّاتِ بُحَثَاءَ جامعيِّين من نوعيَّةِ هكذا باحثٍ جامعيٍّ «ماركسي» أو حتى «أممي» ذي ميول برجوازية أو حتى «تَبَرْجُزِيَّةٍ» لأسبابٍ بَدَهِيَّةٍ بَيِّنةٍ بذاتها – ناهيك، بطبيعة الحال، عن انطوائه الوكيد (انطواءِ الاجتماع بذاتهِ) على تفرُّدِ لامبدئيةٍ «مُوَازِيَةٍ» في كلٍّ من المَنْحَيَيْنِ الإنساني والأخلاقي إزاءَ فعلِ الانتقادِ الافتعالي لهذه الإمبريالية الغربية بالذاتِ دون هذه أو حتى تلك سواها (كقابلِ انتقاده التمثيلي للإمبريالية الأمريكية وغزوها للعراق منذ أكثر من عشرين عامًا، في 19 آذار/ مارس 2003، وذاك صَوْنًا لماء الوجه الذاتيِّ فيما يتبدَّى بجلاءٍ شديدٍ، في مقابلِ انتقاده التأثيلي لـ«الإمبريالية» الروسية وغزوها لأوكرانيا قبل عامٍ ونَيِّفٍ، في 22 شباط / فبراير 2022، وذلك سَيْلًا لماء الوجه الآخَرِيِّ فيما يتبدى بجلاءٍ أشدَّ حتى).. كلُّ هذا النفاقِ وكلُّ هذا الانتقاءِ لَسَائِرَانِ، إذن، على قدمٍ وساقٍ على الرغمِ ممَّا قد يتَّخذه الغربُ الإمبرياليُّ المعنيُّ كُلًّا من موقفٍ عنصريٍّ وكراهيٍّ جدِّ فاقعٍ تجاه العرب والمسلمين أينما كانوا حقيقةً، وعلى الرغمِ من أن هكذا غربًا إمبرياليًّا معنيًّا لا يُريد بأيِّ نحوٍ من الأنحاءِ أن يُقِرَّ، ولو بشيءٍ من الإقرارِ «التطهُّري» على أدنى تخمينٍ، بأن العالمَ كُلًّا كذاك في ذاتِ هذا الزمان «ما بعد الكوروني» بالذات إنما يتغيَّر تغيُّرًا حتميًّا (تاريخيًّا أو لاتاريخيًّا، لا فرقَ هنا بتًّا)، تغيُّرًا حتميًّا مرتبطًا كذاك بتعدُّدِ أقطابٍ زاحفٍ أيَّمَا زَحْفٍ من أقاصي الشرق الأوروبي إلى أقاصي الشرق الآسيوي إلى حتى أقاصي الجنوب الغربي الإفريقي، ولا شكَّ في هذا بتاتا.. كلُّ هذا النفاقِ وكلُّ هذا الانتقاءِ، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ، إن هما أيضًا إلا صفتان لاإنسانيَّتانِ ولاأخلاقيَّتانِ متأصِّلتان يتَّصفُ بهما عينُ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ مأخوذًا بكُلِّيَّتِهِ قبلَ كلِّ شيءٍ، وخصوصًا فيما له مساسٌ بما يحدث الآن من اضطرابٍ حكوميٍّ مسلَّح كان قد تلاهُ تُلُوًّا مباشرًا تظاهرٌ شعبيٌّ على نطاقٍ جدِّ واسعٍ في أقاصي الجنوب الغربي الإفريقي هذا، وفي أرجاء دولة النيجر كلِّهَا حتى هذه اللحظةِ بالذات..فمن الغبن الشديدِ، والحالُ هذه، أن يُظَنَّ أن عينَ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ إنما ينافحُ من أعماقِ الفؤادِ عن استتبابِ كلٍّ من تينك «الديمقراطية» مَنْظِمًا و«الدستورية» نظامًا في هذه الدولة الإفريقيةِ خاصَّةً، أو حتى عن استرجاع رئيسها «المنتَخَبِ» المعزولِ محمد بازوم ذاته بأيِّمَا نحوٍ تفاوضيٍّ كان (وسواءً كان هذا «النِّفَاحُ» مرتقَبًا ارتقابًا عَرَضِيًّا من خلال اتفاقٍ عابرٍ جرى مثالٌ فعليٌّ عليه مؤخَّرًا ما بين أمريكا والجزائر، أم لم يكن).. ومن الغبن الأشدِّ حتى، والحالُ ذاتُهَا، أن يُظَنَّ أن عينَ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ كذاك لاينافحُ من أعماقِ الفؤادِ قطُّ عن منافعهِ أو حتى عن مطامعهِ على أيِّمَا صَعِيدٍ اقتصاديٍّ أو عسكريٍّ ممكنٍ في هذه القارَّةِ الإفريقيةِ عامَّةً، وقد قِيمَ فيها بالعدِيدِ من الانقلابات السياسية و/أو العسكرية حين كان عينُ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ (كمثالِ أمريكا وإنكلترا وفرنسا، في أغلبِ الظنِّ)، حين كان يلوذُ بالصَّمْتِ المُطْبِقِ عن أيِّمَا انقلابٍ قائمٍ منها حسبَما كانتْ تقتضيهِ كلُّ الرَّغائبِ في تلك المنافعِ أو حتى تلك المطامعِ، من جانبٍ أوَّلَ، وحين كان، خلافًا لذلك كلِّهِ، يشنُّ بالإتباعِ شتى الحروبِ الشَّعْوَاءِ ردًّا على ذاتِ الانقلابِ «النقيضِ» إن لم تكنْ تقتضيهِ أيٌّ من تيك الرَّغائبِ بالذواتِ، من جانبٍ آخرَ..

ومن طبائع الأمور، فيما يظهرُ هَا هُنَا، أن خطوطَ النار في أيٍّ من هكذا حروبٍ شَعْوَاءَ (أو حتى حروبٍ أخرى أقلَّ إشْعَاءً) لا يتمُّ فَتْحُهَا فَتْحًا رسميًّا إلَّا تحتَ ذريعةِ مَا يُسَمَّى اعتيادًا بـ«مكافحة الإرهاب»، هذه الذريعةِ التي تقترنُ اقترانًا نفسانيًّا بالإيهامِ المُتَعَمَّدِ عن حقيقيةِ أن عينَ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ إنَّمَا هو الصَّانِعُ الفعليُّ لهذا «الإرهاب» في الحَيِّزِ الأوَّل، منذ أَيَّامِ تدخُّلِهِ الكارثيِّ في ليبيا «الربيعِ العربيِّ» في مطالعِ العامِ 2011 بالذات (إِنْ لَمْ يُذْهَبْ في الزَّمَانِ أبعدَ حتى)، ومنذ جَعْلِ هذه الـ«ليبيا» في الأخيرِ منفذًا «حيويًّا» مَاثلًا على حَدِّهَا الجنوبي الغربي مع النيجر، وبالأخصِّ إبَّانَ تحوُّلِ «الصحراء الكبرى» ذاتِهَا تحوُّلًا حَتْمِيًّا إلى مركزٍ (أو، بالأحرى، إلى مَلاذٍ) عالميٍّ، أو حتى كونيٍّ، لِمَنْ يُسَمَّوْنَ اعتيادًا كذلك بـ«الجهاديين» أو حتى بـ«المتشدِّدين الإسلاميين» – وفي هذا مَا يفسِّر، على نحوٍ أو آخرَ، داعيًا هَامًّا من دواعي وجودِ قواعدَ عسكريَّةٍ فرنسيَّةٍ وأمريكيَّةٍ على نطاقٍ مرئيٍّ هنا بينَ الفَيْنِ والفَيْنِ، وكذاك وجودِ قواعدَ عسكريَّةٍ إنكليزيَّةٍ على نطاقٍ لامرئيٍّ هناك في تلك «النيجر» بالعَيْنِ.. ومن طبائع الأمور، فيما يظهرُ هَا هُنَا أيضًا، أن نِسَبًا جِدَّ ملحوظةٍ من هؤلاءِ الجهاديين أو المتشدِّدين الإسلاميين إنَّمَا هُمْ متحدِّرون من أصولٍ عربيَّةٍ على وجهِ التحديدِ، فقدْ كانوا يبلغون أَشُدَّهُمْ شيئًا فشيئًا بـ«الاعتياشِ» البنيويِّ والتنظيميِّ على ذينك المالِ والسلاحِ «المهرَّبَيْن» من لَدُنْ جهاتٍ «عربيَّةٍ» أو «لاعربيَّةٍ» معيَّنةٍ كانتْ، ولمَّا تزلْ، تعملُ بولاءٍ شديدٍ لصالحِ هذه الدولةِ الأجنبيَّةِ أو تلكَ غيرِهَا من عينِ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ، مِمَّا أتاحَ لهُ أن يُعِيدَ الخَلْقَ واضحًا أمامَ الخَلْقِ كَافَّتِهِمْ (سواءً كانوا أسيادًا أحرارًا أعزَّاءَ، أم كانوا عبيدًا عَتُوفِينَ دُرْقُعِيِّينَ أذلَّاءَ) لثنائيَّةٍ مُشَيْطَنَةٍ على شاكلةٍ استباقيَّةٍ إزاءَ اتخاذهِ شتى المواقفِ العنصريَّةِ والكراهيَّةِ كلما سنحتْ سَانِحَاتٌ على مَرِّ الزَّمَانِ، ألا وهي: ثنائيةُ «العرب والإسلام» تلك المُجْتَرَّةُ بالمرارِ والتكرارِ آنًا بعدَ آنٍ.. وهل في كلِّ ذلك، بعدَ كلِّ ذاك الكلامِ، ما يقدِّمُ شيئًا من التعليلِ المبدئيِّ لميداء الترسيخِ التدريجيِّ لهكذا مواقفَ عنصريَّةٍ وكراهيَّةٍ في أذهانِ الجلِّ من مواطني ومواطناتِ عينِ هذا الغربِ الإمبرياليِّ المعنيِّ، هكذا مواقفَ عنصريَّةٍ وكراهيَّةٍ تجسَّدتْ، أكثر مَا تجسَّدتْ في هذا الآنِ، في كل من السويد والدنمارك، إذ وَصَلَتْ أمداءُ الإحراقِ والتدنيسِ للهويةِ والقرآنِ الكريمِ إلى القِمَّةِ؟؟..

[ولهذا الكلام، فيما بعدُ، تَتِمَّة]

تعريف بالكاتبة

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى