فكر

العقلانية وتحقيق حق حرية الرأي والتعبير

حق حرية الرأي والتعبير وجهة نظر، وليس قانونا

بقلم : عفاف عمورة ـ برلين

    حرية الرأي أو حرية التعبير هي حق سياسي أخلاقي اجتماعي يهدف إلى إيصال المفاهيم والأفكار والآراء إلى الآخرين . دون عوائق أو حواجز، لكن ضمن ضوابط محدَّدة فهو يأتي في بعض الأحيان بالترادف، ساعياً لنقل الأفكار أو المعلومات بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة. عملياً يمكننا معرفة حقيقة هامة وهي أنّ حرية التعبير ليس مطلقاً في أي دولة من دول العالم. لأنَّه في العادة يخضع لقيود ومحدِّدات خاصة في مجال التحريض والفحش والتشهير على ارتكاب الموبقات والجرائم. ويرافق حرية الرأي والتعبير في كثير من الأحيان بعض أنواع الحقوق والحواجز والحدود مثل حرية الصحافة وحرية العبادة وحرية التظاهر السلمي .
لقد تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعترف به في القانون الدولي، وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، الاعتراف بحق حرية التعبير كحق رئيسي من حقوق الإنسان بموجب المادة التاسعة عشر التي تنص من العهد الدولي أنّ لكل إنسان الحق في اعتناق آراء وأفكار دون مضايقة أو استفزاز. وأنه لكل إنسان كامل الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل في حق التماس الأفكار والآراء والمعلومات المختلفة والمتنوعة وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للمكونات الجغرافية والحدود، سواء على شكل نص مكتوب أو مطبوع ورقياً أو اليكترونياً أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها بنفسه.
كما تؤكد المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعترف به في القانون أن ممارسة هذه الحقوق يستنبع مسؤوليات وواجبات خاصة، وأنه وعلى ذلك يسمح إخضاعها لبعض القيود والضوابط عند الحاجة من أجل احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم الشخصية أو المؤسسية، أو لحماية الأمن القومي لبلدٍ من البلدان، أو النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام أو الآداب العامة أو الصحة العامة.
ففي فرنسا على سبيل المثال يمنع القانون أي حديث أو كتابة علنية تؤدي إلى الكراهية أو الحقد لأسباب دينية أو عرقية (إثنية). ويمنع منعاً باتاً تكذيب جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود التي جرت من قِبَل الألمان النازيين. كما يمنع القانون الفرنسي نشر أفكار البغضاء والكراهية لأسباب ميول جنسية لشخص من الأشخاص ذكراً كان أم أنثى .وكان القضاء الفرنسي قد اتهم المفكر الفرنسي روجيه غارودي وكذلك الكاتب الصحفي إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة صحيفة الأهرام ورئيس تحريرها، ومؤلف كتاب رياح الديمقراطية وسنوات الخطر كما قام أيضا بترجمة كتاب (شركاء في التنمية) بتهمة معاداة السامية حسب (قانون غيسو) الصادر عام 1990 م والقاضي بتجريم إنكار وجود أو نوع أو حجم الجرائم ضد الإنسانية التي عرّفها ميثاق لندن عام 1945 في مادته التاسعة والتي خضع على أساسها عدد كبير من قادة الحزب النازي الألماني للمحكمة العسكرية الدولية في ولاية نورينبورغ عامي 1945 ـ 1946 م .
لقد تعرّض الصحفي المصري إبراهيم نافع في العاشر من شهر آذار عام 2005م للمحاكمة. كما منع قاضي فرنسي لوحة دعائية مستوحاة من فكرة لوحة العشاء الأخير للرسام والمخترع الإيطالي ليوناردو دافينتشي الذي عاش في عصر النهضة، وكان معمارياً ونحّاتاً وموسيقياً ومهندساً حربياً وعالماً في العديد من العلوم .حيث أعلن أحد القضاة الفرنسيين بأن اللوحات الدعائية مسيئة للرومان الكاثوليك واقرَّ بأن الإعلان كان تدخل عدواني ومشين بمعتقادات الناس الخاصة. وحكم بأن محتوى الإساءة إلى من يتبعون الكنيسة الكاثوليكية أكثر من الهدف التجاريِ الذي تم تقديمه.
في ألمانيا ينص البند الخامس من القانون الأساسي (Grundgesetz) على حق حرية الرأي والتعبير. وهو يرسم في الوقت عينه حدوداً تتقارب مع القانون الفرنسي تمنع الحديث الذي يتضمن الحقد والكراهية ضد الأديان والأعراق(الإثنيات) والميول الجنسية ومنع استعمال الرموز النازية منعاً باتاً مثل الصليب المعكوف شعار الحزب النازي.
في كندا يمنع القانون جميع الخطابات التي تؤدي إلى الكراهية ضد أي دين أو عرق وتنمع الكلام أو الأفكار أو الصور المسيئة إخلاقياً من الناحية الجنسية .
في بولندا يمنع القانون الإساءة إلى الكنيسة الكاثوليكية ورئيس الدولة ويعتبرها جريمة بموجب القانون .
في الولايات المتحدة الأمريكية تم اعتماد مقياس ميلر أو (اختبار ميلر Miller test) الذي يعتمد على ثلاث مبادئ في المحكمة العليا وهي موافقة غالبية الأشخاص على إبداء الرأي حول موضوع محدّد . حيث يشير المقياس إلى أنّ إنكار حدوث المحرقة في ألمانيا أو الإبادة الجماعية لليهود لا يعتبر عملاً جنائياً. من هنا تتخذ معظم الجماعات النازية وتحديداً النازيون الجدد من أمريكا مركزاً إعلامياً ومراكز دراسات وأبحاث لهم. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 تمت المصادقة على قانون أطلق عليه اسم PATRIOT Act الذي يمنح المخابرات الأمريكية صلاحيات واسعة منها المراقبة والتنصت وتفتيش البيوت والمكاتب والمصانع والشركات دون اللجوء للتسلسل القضائي .
في بلداننا العربية توجد قوانين ودساتير تتضمن حرية الرأي والتعبير لكنها لا تخرج عن إطارها الشكلي ولا يتم تطبيقها بشكلٍ فعّال. حيث تتم الانتهاكات بشكلٍ كثيف لحرية الرأي والتعبير كما تمنع القوانين جميعها من انتقاد الحاكم أو السلطة الحاكمة أو الدين، ومن الجائز أن يتعرَّض الصحفي أو الكاتب للسجن والتعذيب والسحل دون أخذ أي اعتبار للقوانين والتشريعات الناظمة وقد صنِّفت العديد من بلداننا العربية ضمن قائمة أسوأ الدول بمعيار حرية الرأي والتعبير .
الجدير بالذكر أنّ الفيلسوف والاقتصادي البريطاني (جون ستيوارت ميل John Stuart Mill) ( 1806 ـ 1873) م كان من أوائل من نادوا بحرية الرأي والتعبير مهما كان هذا الرأي غير أخلاقي في نظر البعض حيث قال ذات يوم إذا كان كل الناس يمتلكون رأياً واحداً واعترض شخص واحد فقط برأيه فإنَّ إسكات هذا الشخص لا يختلف عن قيامه بإسكات كل الناس إذا توفرت له القوة والسلطة. وكان الحد الوحيد الذي وضعه جون ستيوارت ميل لحدود حرية التعبير عبارة عن ما أطلق عليه اسم تعبير (إلحاق الضرر) بشخص آخر . وكان الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل من الداعين للنظرية الفلسفية التي تقول على أن العواقب الجيدة لأكبر عدد من البشر هي الحد الفاصل في تحديد اعتبار فكرة أو عمل معين أخلاقيا أم لا. تلك الأفكار والمفاهيم والآراء مناقضة للمدرسة الفلسفية التي تعتبر العمل اللاأخلاقي سيئاً للغاية حتى ولوعمت فائدة من القيام به.لكن هذه المدرسة اعتمدت على الدين لتقييم الأعمال وتصنيفها إلى مقبولة أو مسيئة ولهذا السبب نجد أنّ جون ستيوارت ميل يعتبر الكذب على سبيل المثال مقبولاً إذا كان فيه فائدة لأكبر عدد من الأفراد في مجموعة معينة وهي عملية مخادعة وغير صحيحة على عكس المدارس الأخرى التي تعتبر الكذب تصرفاً سيئاً بكل تلويناته حتى ولو كانت عواقبه إيجابية.
في حقيقة الأمر لا يزال مصطلح حرية الرأي والتعبير، يشكل عقبة لدى المفكرين وكبار المقفين والمشتغلين في منظمات حقوق الإنسان، نظراً لتباين وتفارق وجهات النظر واختلاف أساليب التعبير وطرق أدائها، والجهات أو الأشخاص التي تمتلك الحق في التعبير أو إبداء الرأي، ويزداد الأمر تعقيداً مع ازدهار وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعها وتعدّدها،وصارت بيد الكبير والصغير ، المتعلم والجاهل . بحيث سمحت للمستخدمين بكل الأعمار والأجناس والجنسيات بفضاءات أوسع لا تطالها الأجهزة الرقابية الرسمية، لا سيّما مع اللجوء إلى الأسماء والصور المستعارة.
ويعتبر حق حرية الرأي والتعبير وجهة نظر، وليس قانوناً على الرغم من وروده في مبادئ هيئة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والكثير من دساتير الدول كما أسلفنا. إنَّ التعبير عن الرأي يتطلب استخدام اللغة الراقية المهذبة، التي تقبل الآخر وتحتفظ بالرد، إضافة إلى التحلّي بالعقلانية والموضوعية وعدم شخصنة المواقف والردود، واللجوء إلى المنهج العلمي والعقلاني في تقديم الحجج والبراهين. ومن الطبيعي جداً ألا يتمكن أي إنسان كان من اتباع هذا المنهج ويتبع ذلك الأسلوب إلا إذا كان حائزاً قسطاً وافراً من التربية الجيدة والتعليم والثقافة والمعرفة، وفي هذه الحال لا يملك الآخر إلا تقبّل الرأي والرأي الآخر برحابة صدر.
من خلال استقرائنا لمجريات حرية الرأي والتعبير في بعض دول العالم وقراءة البنية العقلية والنفسية الجمعية وعدم وجود قوانين وضوابط ناظمة لردع الذين يمارسون القدح والذم والتطاول الشخصي على الآخرين نطالب بتفعيل قانون الجرائم الإليكترونية والعمل الممأسس على التلاقي المجتمعي وليس التفرقة، والتفاعل الإيجابي وليس المجابهة والتقاتل وإدراج هذا الأمر في المناهج التربوية وتدريب التلاميذ والطلاب على التعامل الإنساني والحضاري، وأبداء الرأي بحرّية لأنّ حرية الرأي والتعبير تقع علينا جميعاً أفراد وجماعات ومؤسسات وهيئات ودول وحكومات من أجل الأمن والأمان والسلم المجتمعي العالمي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى