الكاتبة وفاء كمال الخشن تحاور الشاعر « محمد الماغوط »

محمد الماغوط شاعر واجه العالم بالحساسية المفرطة، والموهبة التي جعلت قلمه يتدفق بعفوية نادرة لاتطالها الصنعة أو العمل المسبق . فقدكتب بحبر جراحه وعذاباته دون أن ينتمي لمدرسة أو تيار. وأعد ملفا ضخما فيها ليرفعه إلى الله فور توقيعه بشفاه الجياع . (على حد تصريحه). لكأنه روح سرمدية تريد الطيران الدائم في خلايا القصيدة. هربا من كل أنواع السلطة. فثار على أبنية الشعر العربي الكلاسيكي. مبتدعا قاموسه الشعري الخاص الذي كان الخيال الجامح والحساسية الشعرية عضده، وكانت اللغة السهلة الممتنعة نواته التي تجمع معان كثيرة في ألفاظ قليلة، تفردت في انبثاقها من الداخل، معتمدة على المعاناة والمغامرة التي صنعت إيقاعها الموسيقي. كان متحيزاً للضحايا والأبرياء والجياع والفلاحين والمحزونين، فهو شاعر الحزن فكراً وسلوكاً وأعصابا. حزين بدءاً من أول حرف بالأبجدية حتى نهايتها .ولكي نفهم عطاء الشاعر لابد لنا أن ننطلق من جو الشاعر نفسه . فلنبدأ من الحزن….

س/1: هل تجيز لي أن أبدأ معك من الحزن؟

ج: الشعر هو الناطق التاريخي باسم الطفولة البكماء .والحزن هو جوهر كل إبداع وتفوق ونبوغ . حتى الكوميديا الراقية إذا لم يكن منطلقها الحزن تصبح تلفيقا وتهريجاً.

***

س/2: ذات يوم هتف يسوع عليه السلام «إلهي لماذا تخليت عني؟ . وأنت صرخت: إلهي إنني وحيد . فأنت على الأقل لك مناخ ذلك الحزن الكبير . فماذا تقول في تخلي السماء عن الأرض؟

ج: المسيح صلب مرة واحدة من أجل السماء . وأنا نبي لاينقصني سوى العكاز واللحية .. وقد صلبت من أجل الأرض . لذلك فأنا بلا أتباع أو مريدين . ويظل تخلي السماء عن الأرض نوعا من العقاب، ليس للأرض بل لمن فوقها ماعدا الأطفال والسجناء والعشاق.

***

س/3: وما الذنب الذي صُلِبْتَ من أجله؟ ولماذا أعرض عنك الأتباع؟

ج: الأتباع دائما يركضون وراء الحلم والمجهول، ولا يلهثون وراء من يدق رؤوسهم بأرض الواقع.

***

س/4: أنت حقا شاعر متحيز للإنسان والضحايا. والأبرياء . هل تعطي الشاعر المعادي حقه فنيا؟

ج: ما من شاعر أصيل يعادي شاعراً أصيلاً آخر، حتى ولو كان كل منهما في قارة. الخائن لقضية الإنسان هو الذي يقبض ثمن موقف ما.. الشعر هو قضية أخلاقية قبل كل شيء فالشاعر الحقيقي لايمكن أن يكون ضد قضية الإنسان.

***

س/5: بعض الشعراء يتقاسمهم نزاع بين الإلتزام وإغفال الجماليات، أو العكس .فكيف توفق بين جمالية الإلتزام وإلتزامية الجمال؟

ج: هناك نظامون أو محترفون، هم مرتزقة الشعر؛ لايمكن الحديث عنهم ضمن سياق الحديث عن الإلتزام والجمال في الشعر. فالشاعر الأصيل هو الذي يعطي ولا يأخذ. كما لا يمكن الفصل بين الجمال والإلتزام . فالشاعرالأصيل إذا التزم بضوء نجمة في السماء بعيدة ٱلاف السنين الضوئية عن قضايا الناس، يظل صادقا وأكثر إنسانية من قبيلة من الشعراء . المرتزقة الذين يكتبون عن الشعوب ومآسيها.

***

س/6: لكل شاعر عالم خاص يقربه من القصيدة، أو يبعده عنها، أو يدخله فيها . فأين هو مكان ذلك العالم في قصائدك؟ وكيف تتعامل معه؟ بحدة، أم بغضب، أم بعفوية، أم بحذر؟

ج: إذا اعتبرنا القصيدة أو التجربة الشعرية بيتا فأنا لا أقرع بابها . بل هي التي تقرع بابي .ليس لي عالم منظم في كتابة اشعر . إنها فوضى أشبه ماتكون بمعركة خيول في الغبار . رويداً .. رويداً تنجلي المعركة . ودائما يكون الصدق هو المنتظر فيما أكتب وإن كان مثخنا بالجراح.

***

س/7: مهما حاول الإنسان الإنسلاخ عما حوله فإنه يظل مرتبطا بماضيه وحاضره ومستقبله . فلماذا كنت تخفي حزنك عن الماضي وعن زوجتك المرحومة الشاعرة سنية صالح؟ ولماذا تخفي قلقك على المستقبل؟

ج: كلمة مرحومة تذكرني بالقبر والمشيعين وأمسيات التعزية. مثلها مثل أي ميت ٱخر . لكن «سنية» لم تكن ميتة في يوم من الأيام بالنسبة لي فقد كانت قا رئتي ومعلمتي الأولى في الشعر. ومن المؤلم أن النقاد لم يأتوا على ذكرها في مسار الشعر العربي المعاصر أكثر مما يأتي الملحدون على ذكر الله.. لقد كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير. وبين نقاد صغار. وفي اعتقادي أن ديوانها الأخير « ذكر الورد » والذي كتبته وهي على سرير الاحتضار بين باريس ودمشق، من أعمق وأجمل ماكتبت عن الإنسان العربي في هذا العصر. وحزني عليها لا أعرضه في المقاهي والشوارع. إنه إحساس شخصي جدا ومدفون في الأعماق دون شاهدة. عندي قصيدة لم تكتمل بعد ولا يمكن الحديث عنها . لا أخفي قلقي ولا فرحي ولا خوفي على المستقبل. لا أخفي في هذا الوطن سوى عورتي.

***

س/8: الخوف يرافقك في معظم أعمالك، ويجعلك تحمل أوراقك الثبوتية آينما تحركت وأينما ذهبت يمنة أو يسرة . ضحكك وبكاؤك دائما في الظلام . فلماذا هذا الهلع والخوف؟

ج: الأمة العربية لها أسس فريدة من نوعها . جميع الأمم مقوماتها الدين واللغة والتاريخ، ماعدا الأمة العربية . فمقوماتها الدين واللغة والتاريخ والخوف . وأنا من هذه الأمة، وخوفي طبيعي، وطمأنينة الآخرين هي المستغربة واللاطبيعية . والعربي الذي لا يخاف أو المطمئن أشك بعروبته.

***

س/9: لقد قلت يوما: هذا القلم سيوردني إلى حتفي / لم يرك سجناً إلا وقادني إليه . وقد قادك ذلك القلم إلى السجن . ولكن إلى أين قاد السجن ذلك القلم؟

ج: قاده إلى مزيد من الإصرار على محاربة الظلم والقهر داخل السجون وخارجها . وقد ألخص ذلك في هذا الجزء من القصيدة.

ما من قوة في العالم

ترغمني على محبة ما لاأحب،

وكراهية مالا أكره .

مادام هناك

تبغ وثقاب وشوارع .

***

س/10: مشكلتك ومشكلة كل شاعر عربي دائما في المطالبة بحرية التعبير والكتابة عن الوطن . فهل ترى أن الوطن ضدك؟

ج: عندما يكون المواطن ضحية فقدان التعبير، فالوطن يكون هو الضحية الكبرى . فكيف ننجد ضحية من ضحية أخرى؟ الوطن لايمكن أن يكون ضد أبنائه فقط، ولا حتى ضد الحشرات التي تسعى على أرضه . لفد أصبح الوطن مشجباً لتعليق ما يعجز الكتَّاب عن قوله، أو المجاهرة به.

***

س/11: في إحدى قصائدك نصحت الشاعر «بدر شاكر السياب» أن يظل ميتا لكي لايرى استهانة الوطن به، والمتاجرة باسمه، فهل ترى أنه لوظل السياب على قيد الحياة لكان من الممكن أن تتحقق نبوءتك؟

ج: بالتأكيد … ولو كان الآن على قيد الحياة ، فلن يصنع منه الوطن سوى محرر صغير في إحدى الصحف المهاجرة.

***

س/12: لنعد إلى الشعر قد تمتلئ مملكة العقل بكثير من المصطلحات والرموز التي تشكل حاجزاً في طريق الولوج إلى عالم الشعر. فهل ترى أنك تقذف الشعر باختيارك، أم أنك تخضع لتلك الأسيجة؟

ج: لو كنت أحب الرموز والحواجز، أو كان صدري يتسع لها؛ لما تخليت عن الأوزان والبحور الشعرية . قلما أستعمل الرموز في شعري . وإذا وُجِدَت فبا ختيارها وليس باختياري . لا أحب سبل التشويق واللف والدوران حول ماأريد قوله. أحب أن أطلق الكلمات كالصرخة أو الطعنة . وما من طعنة تصيب هدفها إذا مضت متعرجة أو مرددة .

***

س/13: ولكن إن لم يخضع الشاعر لبعض الحذر الفكري في كتاباته، فستنفتح عليه عيون كثيرة أولها عيون النقاد .ألا تحسب حساباً لتلك العيون؟

ج: لا .. فأنا أكتب بعفوية تامة دون اللجوء لذلك الحذر . ولا أحسب حساب النقاد .

***

س/14: ولكن هناك عيون أخرى قد تنفتح عليك، كعيون القراء وبعض الشعراء والسلطات . أي عين ترهبك من تلك العيون .

ج: لا أخاف إلا من نفسي و من صفحاتي البيضاء . فهي « سيبيريا » خاصة بي تواجهني في مطلع كل قصيدة .

***

س/15: إذاً لماذا لاتنام جيداً حينما تختمر القصيدة . فمن المعروف عنك قلة النوم .

ج: لا أعرف النوم لاقبل ولا بعد كتابة القصيدة .

***

س/16: لماذا؟ مع أنك تصرح أنك تحلم أكثر مما تكتب.

ج: نعم النوم بالنسبة لي راحة مزعجة، أو لص يسرق حياتي وشعري ليلة بعد ليلة .وأحلامي تتطور إلى كوابيس.

***

س/17: ماهو الكابوس الذي يلح عليك أكثر من غيره؟

السقف الواطئ والملاحقات والسجن . ففي أعماقي احتياطي من الخوف يفوق احتياطي السعودبة وفنزويلا من النفط .

***

س/18: وماذا عن ذكرياتك مع الشعراء ومجلة شعر؟

ج: مجلة شعر كانت نقطة البداية لوضع الشعر العربي على طريق الحداثة .

***

س19/: لكنها توقفت واستبعدت عنها أنت وأدونيس وخالدة السعيد وخليل حاوي .

ج: نحن تركناها بعد أن انقسمت إلى تيارين أحدهما يستند لتأصيل الوحدة والعروبة. والثاني لتعميق الإقليمية . وكانت حرب حزيران نقطة الفصل التي غيرت مفهوم الصراع حول الهوية .

***

س/20: وماذا بخصوص قصيدة النثر؟ لقد صرحت في أحد حواراتك لصحيفة الأهرام المصرية بأن الشعر القديم نصفه شعر ونصفه غوغاء . فهل ذلك نعت لقصيدة النثر بالكمال .

ج: الشعر الكلاسيكي هو نصف شعر .لأنه شعر قيلولة ومناسبات وتتويج هذا وخلع ذاك . وهذه ليست مشكلتي أبداً . حتى لو كتب شكسبير قصيدة في تتويج ملك، فلن أقرأها .لكن لو كتب عن أحد الخدم في ذلك الاحتفال لقرأته بشغف . الشعر الكلاسيكي مهما قيل فيه ورغم احترامي لتراثه وعائلته العريقة وحسبه ونسبه، فإنه مايزال شعر طرب واستجداء وتصفيق .

***

س/21: تناصب القصيدة الكلاسيكية العداء وأنت متهم بالخمول الشعري . هل تريد أن تحمل الراية في مجال آخر؟

ج: الكاتب جندي في معارك شتى . وكل معركة لها أسلحتها ورايتها وظروف الإنتصار أو الهزيمة بها .وأنا في كل ما أكتب في المسرح والصحافة والنثر، لم أتخل عن الشعر أبداً . فالشعر عندي موقف قبل أن يكون ألفاظا وصوراً شعرية . وأعتقد أنني عندما انتقلت بالشعر إلى المسرح فقد وضعته في موقع متقدم .

***

س/22: معظم كتاباتك المسرحية للفنان دريد لحام . فما سر العلاقة بينكما؟

ج: أحب المسرح وبذور المسرح موجودة حتى في قصائدي الأولى «حزن في ضوء القمر» و«غرفة بملايين الجدران»، و دريد اللحام  هو فنان كبير وأفضل من يجسد ما أريد التعبيرعنه في المسرح . لم أفكر بالكتابة لغيره، فهنالك تفاهم بيننا . وليس من المنطقي أن أترك النهر وأبحث عن السواقي لمجرد التنويع .

***

س/23: يبدو أن الحوار بات طويلا وبدأت تكثر من الدخان فأنت تضجر بسرعة وقد صرحت ذات يوم بأنه ليس لديك سوى عدوين الضجر والشيوعية مع أني لم ألمس في قصائدك ما يدعم عداءك للشيوعية ومبادئها . فما سر ذلك التصريح؟

ج: هذا عنوان مقابلة لعبت فيها الشطارة الصحفية من الصديق العزيز « بول شاؤول » في مجلة المستقبل. وقد كنت أعني في ما أعنيه أشخاصاً معينين. أعرفهم في المقهى . وكنت أضجر من أحاديثهم وتنظيراتهم . فالحديث كان شخصياً للغاية . فأنا قصدت ماركسية المقاهي التي تسيء إلى ماركسية التاريخ الحقيقية . لست على عداء مع الماركسية فهي تيار صادق في نصرته للحق والعدل والحرية بالفعل لابالقول . وأنا صديق الإنسان وعدو الشعارات .

***

س/24: كلمة أخيرة قبل أن أنهي الحوار أنت معروف بأنك تكره المقابلات الصحفية قهل تتهيب الصحافة أم أنك ترى أنها تكرهك على قول أشياء تعرفها ولا تجرؤ أن تبوح بها، أم أنك تكره الشهرة والأضواء ؟.

ج: ندرة مقابلاتي الصحفية ترجع إلى طبيعتي الشخصية . ولاعتقادي أن الأضواء في زمننا العربي الرديء هذا خلقت لطمس الحقائق لا لإضاءتها . بالإضافة إلى أنه لي آراء في الشعر والنثر والمسرح والحرية والإنسان لم تتبدل منذ أن كتبت أول كلمة، ولا أقبل على نفسي أن أكررها من مقابلة لأخرى . ثم أن معظم الذين يأتون لمقابلتي هم من الجيل الجديد يأتونني ويا للأسف ككاتب سينمائي أو مسرحي، وينسون « محمد الماغوط » الشاعر في كل مايكتب . ولو لم تستخدمي غريزتك الصحفية وشطارتك في هذا المجال لما نجحت في انتزاع هذا الحديث.

***

س/25 ألا ترى أن كلمة انتزاع تحمل المزيد من الغرور . وكأنني أخذت الحديث منك عنوة .

ج: لا..لا.. أبدا فالأحاديث التي دارت بيننا قبل الحوار أقنعتني أنك إعلامية ناجحة وأنكِ تعرفين محمد الماغوط الشاعر والمسرحي وكاتب الأفام .وقبل كل ذلك تعرفين محمد الماغوط الإنسان المتجرد من صفته كأديب . لذا لم يكن من الممكن الفرار من هذا الحوار معك.

انتهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى