مقال

طقوس الكتابة خلف القضبان

لماذا يكتب الأسير؟

بقلم: الأسير أيمن ربحي الشّرباتي | سجن نفحة الصحراوي
سؤال الكتابة وقع على زنازيننا وقوع الصواعق، فأشعل في غياهبها الحرائق،حرائق ألسنة لهيبها إلتهمت جدران اليأس وصهرت قضبان البأس، التي تلتف حول أعمارنا كحبال المشانق ، وحوّلت أغلال النسيان وأقفال الحرمان إلى رمادٍ تذروه رياح الكلمات .
والشرارُ المتطايرُ من نار السؤال، أشعل فتيل خيالنا، فسارعنا إلى سكب حبر أقلامنا، وسفح مداد نصوصنا، وطرح هشيم سيرتنا وإلقاء أغصان فصاحتنا وتجميع حطام ذكرياتنا، وتكديس عشب مفرداتنا في موقد السؤال المُستَعِر.
فتتلظى ناره وتتشظى أفكاره حتى تتبخر العتمة ويذوب الظلام، ويصبح ليل السجن نهاراً وضاحاً صداحاً تشرق فيه شمس السؤال، وتشدو فيه طيور الجواب.
هل تعلمون يا معشر القُرّاء، بأننا حين نكتب نقتبس من نار السؤال التي أنِسناها تشتعل وتنفعل في غياهب ومخالب أسرِنا، فلعلكم حين تقرأوننا تجدون علينا هدىً أو تصطلون بنارنا.
فمن نافلة القول وغافلة الحديث، أن نُعلِمكُم ولا نُلزِمكُم بأن الأسير الذي يفترش السَّعير، و يلتحف أحلاماً من الحرير حين يزاول مَلَكة الكتابة، يصدح بملء صوته قائلا: أنا أكتب إذنأنا موجود رغم القيود .
أنا أكتب إذن أنا جسرٌ معلقٌ بين ضفتي الوجود والخلود.
أنا أكتب إذن أنا نارٌ و شرارٌ و بارود.
أنا أشواكٌ وأزهارٌ و ورود.
أنا أكتب إذاً أنا معصومٌ من النِّسيان، وعصيٌ على الموت، ومحجوبٌ عن الفناء،ومُحصَّنٌ من العدم.
أنا أروي إذن أنا ينبوعٌ من الدموع وسندانةٌ من الشُّموع.
نحنُ يا مَعشرَ القُرّاء نكتب لأن مصطفانا قال: (إن من البيان لسحراً)، ونحن نقول صدقتَ كلما نطقتَ يا رسول التوحيدويا نبيَّ التجديد، (إن من البيان لسحراً)، وأن السِّحرمِنجل الشِّعر الذي نجني بحدِّه سنابل الحروف؛ لنبني بحبيباتها قصورا من زهورٍ و سرور،والسِّحر أيضاً معول الفكر الذي نقوِّض بنصله أركان الفساد والاستبداد، لنهزم عصورا من غرورٍ وشرور،أمّا الاسير فينسج على منوال الشِّعر أجنحة من عطور ونور، تمنحه نشوة التحليق والتعليق من علوٍّ مجازي ومن سموٍّ افتراضيّ .
نحن نكتب لأنّ الكتابة كانت في البدء نطفةًتتخلَّق وتتألَّق من رحم الأبجديّة، وفيأحشاء الأبدية، حتى تمخّضت الظُّروف والحروف فولدت الأقوال والأفعال، وتلاقحت الأفعال والأقوال برحيق الكلام، حتى غدت الألفاظ أشجارا باسقةواللُّغات غاباتٍ ناطقة، واعتصر الوحي عناقيد الأسماء والصفات في حوضه المُقدّس حتى سال خمر النصوص في كؤوس الأنبياء، فاحتسته روح الإنسانية حتى أسكرها حب الكمال والجمال، وهي تشقُّ طريق الإيمان لِسَبرِ أغوار الوجود، كما أسكرنانحن معشر الأسرى حتى الثمالة حب الإستقلال وكره الاحتلال، ونحن نسعى لتسلقِ جدران أسرنا متلمسين مطامح صيرورتنا، ومتحسسين ملامح صورتنا ومتقمصين مآثر أسطورتنا، لأننا لم نكتب إلا بعد أن ارتشفنا من خمر الروحومن نبيذ الجروح في أقداح الطموح.
نحن نكتب لأن الكتابة أمواج من المعاني العاتيه التي تغمر شواطئ عقولنا، بدرر البلاغة ولآلئ الحكمة وأمواج من الأماني والتهاني تؤم معابد حكايتنا، وتعمّ مراقد ذكرياتنا وأضرحة مناقبنا، ومعراجا من الأغاني منصوبا على أبواب الحب، يعرج العاشق فيه حتى يذوب و يؤوب إلى حضرة الكمال.
نحن نكتب لنهتدي ونقتدي ببوصلة شاعرنا (محمود درويش )، الذي ما فتئ صدى مقولته ( من يكتب حكايته يرث أرض الكلام)، يتردد بين سطور نصوصنا حتى أثمرت مقولته وأقمرت قصائده وأزهرت بحوره : ( من يكتب حكايته يرث أرض الكلام )، ونحن نقولويُورِّث سماءا من الأحلام، ويسقي بحراً من الإلهام،ويَشرَب نهراً من الأوهام، و ُصارع ويقارع أشباح الظلام بسيف الكلام وطيف الأحلام، هذا يا معشر القُرّاء مبنى ومعنى قصيدة سِجالنا مع شيخ طريقتنا الكلامية، التي نحملها نبضاً في قلوبنا وكحلاً في عيوننا، ونحن نهرب من رطوبة الزمان وعفونة المكان في زنازيننا إلى فِناء السِّجن؛ لنطوفَ طوافَ الصَّبرِ حول كعبة الرؤيا التي وَضع قواعدها لنا في السجن سيدنا يوسُف عليه السّلام .
نحن يا معشر القُرّاء نكتب؛ لأن حَبر روايتنا وسادن حكايتنا وخازن أحلامنا وأمين سر روحنا غسان كنفاني ترك رجالا في الشَّمس يذوبون في خزّان وأحزان الإنكسار، لعلهم يتوبون عن تعاطي أفيون الانتظار، لكّن الخزّان والأحزان أُصيبا بالغثيان من فرطبلادتهم وعمق خمولهم،فما كان في نهاية المطاف من الخزّان إلّا أن بصق أولئكَ الرجال البليدين نفاياتٍ بشريّة، وتركهم يتعفنون على مزابل المصير، وفنحن لهذا نكتب براً بأُمنا الروحيّة الرواية من عقوق بنهاالنِّسيان، وهو الابن الذي لا يتورّع ولا يتذرّع بإلقائها على وجهها في مقابر الصّمت، أو في تركها تحتضر في بيوت الشَّيخوخة عندما تبلغ من العمر عتيّيا.
من نافلة القول ولمم الحديث ان نخبركم بأننا نحن أيضاً رجال وأجيال قابعون في خزّانات العتمة، فنكتب كي لا تقرّعنا روح غساننا وتؤنِّبُنا روحه وجروحه ويوبِّخُنا طموحه، فنُجلد بسياط أسئلته الموجعة المفجعة: لماذا لم تهزّوا إليكم بجذع الضاض فتتساقط عليكم خُطباً نارية؟، لماذا لم تصهروا وتعصروا الحنين والأنين والسِّنين في أيقونة الأبطال وفي كينونة الاعتقال؛ لتستوحوا من لهيبها وتستنبطوا من نحيبها نصوصكم الماسيّة؟ لماذا لم تستولدوا ذراعاً فولاذيّة من آلام مخاضكم؛ لتقرعوا بها أبواب الأبديّة وأسباب الحريّة؟
فنحن يا معشر القُرّاءنكتب .. لأن الحياة لا يبقى منها إلا ما يُكتَب عَنها ومِنها وإليها، فمن يكتب لا يضلّ ولا يشقى.
نحن نكتب لأن الكتابة للأسير تعني الإنبثاق والانعتاق من نير العبوديّة إلى أثير الحريّة.
نحن نكتب يا سادتنا القرّاء.. لنُقلِّد سيرتنا ومسيرتنا إلهام الجدود ووسام الخلود، لأن الكتابة في قاموسنا وفي ناموسنا تعني أن يمتطي الأسير صهوة حصان الحق، الذي يصول ويجول في أيقونة الخضر عليه السلام وله الكلام ومنه الأحلام، وأن يستلَّ رماح البيان ويُشعل رياح الإيمان؛ ليلعن ويطعن بها تِّنين السِّجن فيذبحه من الحديد إلى الحديد، ويطأ عنقه بحوافر عنفوانه ويدعه ينزف ويقذف من نحره صدأورطوبة و قضباناً وجدراناً و أسلاكاً شائكة، وسلاسل مُتهالَكة وأغلالاً مشطورة وأقفالاً مكسورة،حتى بتعفّن ذلك التِّنين اللَّعين ويتكفَّن برفاته و فتاته، فتتحّول جيفته إلى عتبه يدوسها حصان الأيقونة، وهو يحملنا على صهوته، ونحن خارجون من بطن التِّنين أحراراً كالأقمار هادرين كالأنهار شامخين كالأشجار.
نحن يا معشر القراء نكتب، لأننا أسرى روايتنا فدماؤنا مداد فصولها وعَرَقنا حبر أُصولها، وأرواحنا بوصلة مقاصدها وأبصارنا عيون مراصدها .
نحن المدجّجون بمعانيها، المعجونون بأغانيها، المشبعون بأفكارها، المُدْرَعون باذكارها المشتغلين برموزها، المتشغلين بدلالاتها ، المطحونون برحاها، المسكونون بصداها، المشحونون بأعاصيرها، المرهونون بمصيرها، نحن شؤونها وشجونها، نحن فحواها ومهواها، أحلامها وكوابيسها، صوتها وصمتها، أفراحها وأتراحها.
نحن يا معشر القُرّاء نكتب لأننا محكومون بالسّرد، مرهونون للكتابة، موقوفون للرِّواية، منذورون للقص .
وفي الختام عهداً علينا يا معشر القُرّاء: لأننا سنبقى رهباناً معتكفين في صومعة الضاد، نقرع أجراس الخلاص بحبال الإخلاص، وستبقى حروف الكفاح خناجرنا التي نجرح بها متن المكان ونُعدِّل بها سند الزّمان، ونصحِّح بها ضعف حضورنا وهشاشة ظهورنا في مرآة التاريخ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى