اجتياح

الأسير المؤبد|  كنعان كنعان

       كان على البائسين أن يعيشوا كل الآلام الفظيعة التي تحز القلوب بسكين ثلمة، كان عليهم أن يواجهوا مصيرهم ويحزنوا وحدهم، وكأنه قدرهم أن تكون قصصهم الرهيبة وُلدت مَنسية!! فليس على الحقيقة أن تَدين عن نفسها، وحدها تقف في وجوه المنكرين دون الحاجة لأية دليل، فشخوص الحقيقة أبلغ من كل الأقوال، فمنهم من قضى ومنهم من يقبع في قعر النسيان، فالحرية شجرة سقيت بدمائهم وآهاتهم وماء الوحدة وعَرق الشقاء، وترعرعت بعيداً عن الشمس هناك في أرض الحكايات والوجع. 

       فبينما كنّا نتحضّر للخروج للفورة “ساحة النزهة” المسائية والأخيرة في ذاك اليوم، في زحمة كانون الباردة، ونحن نتلفّع بكل ما لدينا من ملابس اتقاء شر ذلك البرد الصحراوي القارص، وما أن وصل أولى الخارجين من الغرفة الأولى نقطة التفتيش الأولى الماثلة أعلى أدراج الطريق المؤدي إلى الساحة في الطوابق السفلى، حتى تهادى لمسامعنا صوت ارتطام وكسر، تعالى صراخاً عقبه، لم نفهم ماهيته ومن هو صاحبه ولكنه كان أشبه بالنهيق أو صراخ الصدمة من شدّة الألم والمفاجئة، لم نستطع نحن في الغرف المتقابلة والماثلة وسط القسم وآخره فهم ما يجري، ومن ثمّ حدثت جلبةٌ أخرى وخفت صوت وتعالى آخر، يما… يما… يا… وخبى، وظلّ صوت الضرب قائماً، عندما أدركنا ما حدث وما سيحدث في أفضل الأحوال، وأن العقاب الجماعي آت آت، بعد أن هدأت جذوة الاستفسار والاستنفار، وصار مفهوم أن أحد الأسرى ضرب أحد السجانين، ومن ثمّ تم ضرب الأسير حتى فقد وعيه بحضور قوة التدخّل الأولى الفورية.

        عمّ الصمت وكان يتفاعل في الأعماق على هيئة سُحب من دخان وتضغط على المكان وقاطنيه بشكل رهيب وقاتل، إلى أن كسره إلى شظايا، هدير جرّافة أو هزّة أرضية قادمة كأنه، عندما أخدت الأبواب والأرضيات تهتز على وقع أقدام المقتحمين وهم يدبون على الأرض ببساطيرهم ودروعهم وأعدادهم الهائلة، من كافة وحدات القمع والإرهاب، حتى جنود عسكريون بلباسهم الصحراوي تمّ استعدائهم على عجل من أحد المعسكرات القريبة، وكنّا نعتقد أنهم من وحدة المتسادا سيئة الصيت والسمعة المتشابهة في اللباس العسكري والتسليح، كما أكّد لنا زيف اعتقادنا فيما بعد وأن دواعي احضارهم التمرد وكسر وجه أحد الضباط بآلة زجاجية حادة؟!

        كانت خيول المجهول تتسابق في النفوس، نحن نتراكض للإمساك بلجامها، لنمتطي اللحظة ونتحضّر لها، فهُم يفوقونا عتاداً وعديداً، ونحن عُزّل تماماً إلا من إرادتنا الصلبة ومواجهة مصيرنا بشجاعة مهما كانت فداحته، فالمعركة غير متكافئة ومن الحكمة الخروج منها بأقل الخسائر والكسور ما أمكن، وقد تكشّف أن ما دخل القسم ما هو إلا جزءٌ يسير منهم أو هذا ما سمح به المكان، فقد ملؤوا المكان بأعدادهم وضجيجهم وتوعّدهم على من كانوا على استعداد وجاهزية لممارسة ساديتهم في الممرات وساحة الصَلب والدم.

       أخذ أحد الضباط برتبة عالية يبث سموم التعليمات للخروج حينما وصلنا وهو يؤكد أن ملابس الخروج والتي كانت “شلحة وشورت وبابوج” فقط لا غير وأن نخلع كل ما علينا، ومن ثمّ نجلس على أبراشنا دون حِراك، دون أن ينتظر ويتوقع أي تعليق، قالها، وذهب إلى غرفة أخرى، وِفق ما أُمرنا به فعلنا، أخذنا ننتظر كلّ شيء يخطر ببال انسان أو حيوان أو نبتة قرّيص بريّة، سيدخل من الباب وما بعده، هدراً للأعصاب في محيط يحترف اغتيالها.

       على أكتافهم لوّحت اللحظات بأقدامها المالحة، والدقائق معجونة برملٍ خشن، تتفتت بصعوبة تحت أسنانهم وهُم يحاولون قطع الزمن، فانتظار المجهول أقسى من المجهول نفسه، عندما صار يتهادى لمسامعهم المشوشة صرخات الأمر والاخضاع ودروع تدخل وتصطك ببعضها، كانوا ينتظرون مصيرهم بتحدّي ولو كان شكلياً وهُم ينتظرون دورهم غرفة إثر غرفة، وصراخاً تلو الصراخ، وصمتاً إثر صمت. 

      كما كنّا نتخيّل ونسمع دخلوا غرفتنا ووصلنا الدور، تسبقهم دروعهم التي ألقت بنا على وجوهنا على الأرض بكل همجية وإرهاب، وداسوا ببساطيرهم على الرقاب والظهور لحين التكبيل وسط الصراخ والزمجرة والتهديد بالسلاح الناري والمطاطي على العزّل الأبرياء، وحين جاء دوري بالتكبيل أدركت أن جسدي الرياضي لعنة لا ميزة أتفاخر بها، كان مستحيلاً على شخص واحد أن يضم يداي لبعضها للخلف لتكبيلها، فأخذ يصرخ بفرح “إنه يرفض التكبيل”، فعلى الفور قلت نافياً، لم يستمع أحد لما قلت، سقط المطر، تلبّدت الغيوم في عيناي حد السوّاد، وتطاير البرق من كتفاي حين رعُدت مفاصلها، حينما ضغط اثنان أو أكثر يداي مرة واحدة في محاولة لتكبيلها بالقيود البلاستيكية، ضغطوا بأقدامهم على يداي بعد أن نجحوا، حتى يتسنى للآخر شدّها إلى أبعد حد، حتى غارت في اللّحم في صرخة مدوّية، خرجت على شكل أُهزوجة ألم مجدليّة، وكأن البطولة مبدؤها الألم، وأن الكبرياء منبعه الآه.

        لألحق بركب من سبقوني، أوقفوني على قدماي والألم يعصر كتفاي ويداي، خرجت من الغرفة، لينفتح على عيناي درب الزاهدين إلى المقصلة، الكل من حولك ينتظر الانقضاض عليك لا ترى منهم إلا الكراهية والغربة القاتلة، الطريق إلى ساحة التعذيب والإذلال مليئة بالدم وعلى الجدران وجنباتها، وفردات الأحذية مبعثرة تُنبؤ بما حدث لأصحابها، فحينما تعذّر عليهم قذفي من يدٍ لأخرى للحاقدين بسبب متانة جسدي -وهنا عاد ليكون حسنة أتفاخر بها- أدركت ما حدث لمن سبقني، ومن المُضحك المبكي، أن بعض الأسرى لم تتطئ قدماه الأرض وقطع المسافة الطويلة طائراً تتقاذفه الأيادي كالكرة ومن جدارٍ لآخر حتى وصل الساحة. 

         إلتقطت أنفاسي بصعوبة في بحر انفعالها العاصف، لتسقط عيناي على المغمورين في قدور الموت الآنية في ساحة الإذلال حين وصلت، عاينت فيها الموت راقصاً بلا رحمة أمام ناظري، في انتظاري ثلاثة من العساكر كرفاقي كانوا، وقد جاهدوا في طأطأة رأسي وجذعي للأسفل في طريقهم لإلقائي بين الجموع الراكعة والمُنكسة على الأرض، والمكبلة من الخلف، وقد جعلوا بين الصفوف ممرّات وفواصل، ليتكفّل بكل أسيرٍ جلاداً وقاتل، يسفعه على رأسه ورقبته كلما حاول أن يتأتى بحركة، ولو كانت إلتفاتة استطلاع يسرقها بطرفِ عينه، لم يمر الوقت الطويل حتى فقدنا الإحساس بأرجلنا وأيدينا، وكاد الدم يطفر من أعيننا، بل وسال من البعض عندما غارت قيوده في رسغيه كمثلي دافئاً، فقد كان البرد يحز القلوب والأرواح، فيما تبقى من احساسات متناقضة، لا يفهم سرّها وفقط إلا من كان هناك، فقد طال الصلب طال، لم تتحمّل بعض الأجساد المتعبة أصلاً، فأخذت تتهاوى إلى الأمام وعلى جنباتها، وكانت هذه فرصة للقتلة أن ينقضوا عليها، إلى أن كادت الأرواح تُفارق الأجساد المنهكة، فقد عملوا على إذلالنا بصبر الحمير وجَلَد البغال وقوّة الثيران بدون ملل.

        كيف يمكن تعريف الزمن هنا؟! الزمن خرج من نفسه، كتلته المتحركة تتأخر عنه، وهو يُراوح مكانه، استطال على الجانبين وبعج قلوبنا، وقد أطلقوا آخر رصاصة من مخزن حقدهم في سلوك فاشي موسوليني، حيث استخدمه سلفهم من المحتلين والقتلة في ليبيا المختار الحبيبة في أسلوب الإعدام الروماني بقتل العُشر، فعند البعض لم يتوقف نزف الدم ممن غارت القيود في لحم جسده، فظلّ يسيل لساعات حتى كادوا أن يسقطوا شهداء، عمدوا لتغيير قيودنا البلاستيكية على حساب الرُبع، فكانوا يعدّون ثلاثة أسرى ويغيّرون قيد الرابع، وأربعة ويغيّرون للخامس وهكذا بأسلوب سادي قميء، حيث كنت في أحد المسارات الرابع فغيّروا لمن هو قبلي، ولم يتوقف خيط الدم حتى فكّوا قيودي في الغرفة وبطريقة مُوجعة حتى الرمق الأخير.

        كنّا كتلك الأشجار التي تسقط أوراقها ولا تسقط قاماتها، تظلّ سامقةً في السماء تتحدّى العواصف المزمجرة وتصمت أمام جيوش الرياح الهائجة، بالرغم أننا كنّا نسير بصعوبة، وقد تجاوز الوقت منتصف الليل، حينما أعادونا للقسم وقد نفِذ ما في جعبتهم من سادية وإذلال، ساحة مجزرة كانت الساحة والطريق إلى الغرفة، وهي بدورها كانت دماراً على دمار، كانت مُصمتة باردة وغامضة كالقدر وخيمة كالموت، فقد جمعوا أغراضنا ومتعلقاتنا في كومة وسط الغرفة بعد تدميرها وتمزيقها، سُكب كل شيء سائل وجاف عليها، وبقينا نستعمل ونلبس تلك الملابس والأغراض لشهور حتى سمحوا بإدخال غيرها. 

         كانت الأيادي منتفخة وزرقاء وكذلك الأرجل، والجفون تكاد أن تنفجر والألم في كلّ مكان، ولكنّا تعوّدنا في الأسر أن نتعافى من الآلام بتدريب النفس على نسيانها، وبنكران بشريتنا أحياناً، وللمفارقة الغريبة أحضروا الطعام وأدخلوه من طاقةٍ في ثقب الباب، كما لو كان ثقباً في القلب، بأن عليكم الأكل امتدت أيادينا المرتجفة كالرهبان تتلمّس الحياة، أكل بلا أي شعور باللذة للأكل وحتى للحياة، مضغ مثل ماعز في الجبل، تنظر إلى القمر قبل أن تنام، كنّا مثل تماسيح هرمة فقدت محيطها المائي، فأسبلت على فتور جفونها المتورمة، لا شيء يحث حجر الرغبة في أي شيءٍ يركد في الأعماق.

        يا خالق الأكوان رفقاً بالمعذبين ترحماً، فقد فاضت عين الدجى بهم إيلاما، ها هم تحت ناظريك يُذبحون اثنين، أربعة، خمسين، مئتين من الأسرى في ساحات الإذلال هوناً، هانت على الأحرار دماء أحبتهم وأوجاعهم، وثرى الوطن في قلوب المقيّدين ما هانا، ضاقوا ذرعاً بقهرهم، ويد السجان تقتل ما أبقى الزمان فيهم وما كانا، شجعاناً آساداً ما زالوا حتى الحلم الأخير، حتى يعودوا وتعود بعد الغياب حبيبتهم فلسطينا. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى