حلم السمك العربي.. التجريب المسرحي على خلفية التراث

ناصر أبو عون

فرقة مسرح الشباب الكويتي نموذجا

إن المسرح فن يحمل رسالة وخطابا نهضويا ولا يزدهر إلا في المراحل الانتقالية والتتابع التاريخي للأحداث يثبت أننا – العرب – نمر بمنعطف خطير بداية من حرب الخليج الأولى ثم الثانية وانهيار روسيا الاتحادية وسقوط سور برلين واحتلال العراق ومن قبل تداعيات 11 سبتمبر وأخيرا رياح التغيير والإصلاح السياسي التي بدأت تهب على منطقة الشرق الأوسط .. وبالطبع لا يمكننا كعرب الهروب من هذا الواقع الذي طُرِحت فيه متغيرات جديدة على المستويات السياسية / الاجتماعية / الجمالية / المعرفية .

  • لماذا لم نوفق في مسرحة التراث؟

ومن هذا المنطلق لا يكون التراث الشعبي قفزا في الهواء ولكنه مرتبط بالواقع المعاش ومن ثم يكون السؤال الهام والمغاير لكل الأطروحات : لماذا لم نوفق في توظيف التراث ؟ ويأتي السؤال موازيا لثورة مسرحية عالمية تبشر بقيم جديدة وتطيح بقيم أخرى بالية و لا ننكر أنه على المستوى العالمي هناك حرب حضارية على المستوى الثقافي .. وهذه الحرب تحاول أن تجعل كل ثقافة العالم الثالث فولكلورا وتعطي الهيمنة للمسرح الأوروبي !!

ونتيجة للفجوة الحاصلة ما بين المسرح وبين جمهوره بفعل التجريب الثقافي الذي يسعى إلى وضع تراثنا المحلي في بوتقة الاستلاب ليجرده من قيمته الحقيقية – وبتعبير فاروق أوهان – بل إنها يتقمصها ويلبسها أرديته ليعيدها لأهلها بأزياء وأقنعة يريدها لهم .. لذلك اعتبرت العامة المسرح الوافد دخيلا .

وساعد هذه الفهم على اتساع الفجوة بين المسرح الشعبي الاجتماعي والمسرح بشكل يصعب ردمها وتقريب المسافة بين حافتيها رغم الصحوة المسرحية التي بدات منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين.

ومن رحم السؤال السابق يولد سؤال آخر هو : كيف حاول المبدعون التصدي لقضية مسرحة التراث ؟ وما هي مميزات محاولات المخرجين بمسرحتهم للتراث ؟ ويعتقد فاروق أوهان : أن هذه المحاولات تميزت باعتماد المخرجين المسرحيين العرب على الموائمة والمزج ما بين الحداثة والأصالة وما بين ما يشتقونه من التراث متجردا من روحيته وما بين روحية المسرح السائد – النمط الأوروبي-  دون الجرأة على البحث عن الأصالة قالبا ومضمونا . بل ولم تلتفت أغلب محاولات التطويع للخواص الدرامية الفعلية المنقولة غير الشكل الحرفي العام والسياق السردي أو الشكل النمطي.

 

  • حلم السمك العربي / (حداثة في ثوب وطني)

  هذه المسرحية قدمتها فرقة (مسرح الشباب الكويتية) وكان التأليف والإخراج والديكور للمسرحي (حسين المسلم) الذي اتكأ على تقنيات حداثوية تتوافق مع الرغبة في التجريب ولكن على خلفية تراثية ولكن دون أن يخرج عن الثوب الوطني وأهم هذه التقنيات:

  • طرح أسلوب (الحكواتي) الشهير في أدبنا العربي وتوظيفه في مجريات الأحداث وربطه بالموروث الإيقاعي.
  • الاستعانة بالإيقاعات الخليجية المتميزة وتوظيفها دراميا.
  • إيجاد ملامح (بريختية ملحمية) وتظيفها بشكل يجعلها منصهرة مع هذا الموروث والشكل المسرحي العربي.
  • على مستوى الشكل فإن هناك دمجا بين الخشبة والصالة بحيث لا يمكن التفريق بينهما والتفاعل بين الممثل والمتفرج مباشرة على المستوى المادي والمعنوي وهذا حدث لأول مرة في الكويت.

 ويهدف حسين المسلم من خلال العرض إلى إيجاد صيغة مسرحية عربية على مستوى الشكل والمضمون تدور أحداثها في مقهى عربي يتميز بالحكواتي الذي يرفه عن الزبائن بجو مفعم بالطقس وروح الموروث وأثناء تجاذب رواد المقهى أطراف الحديث فتبرز مشكلة (نفوق الأسماك) التي تتطور فيما بعد فتربط بنفوق البشر وأمام تفاقم المشكلة وازدياد عدد الضحايا يثور الناس باحثين عن الحل فيشير عليهم الحكواتي باللجوء إلى الموروث من الروايات والأساطير لاستنباط ما يفيد حيث يقوم معهم باستحضار شخصية (ملك البحور / بودرياه) الذي لن تزيدهم مشورته إلا سوءا وأمام سقوطهم واستسلامهم للنعاس ينتهي العرض بمقولة  (الضارب على الآلة الطابعة) : ” لابد من إعداد جيل جديد ليحدث التغيير ” فيردد مغني البحارة هذه الجملة الختامية ” السهام”.

وحول المسلم صالة العرض إلى حالة من الاندماج بين الجمهور والممثلين – وهذه التقنية تحدث لأول مرة في المسرح الكويتي – ففي المقهى تتنامى الأحداث وتتصاعد بعدما بدأت بفلاشات : ( فلسطين / الاستجواب لم يكن من أجل رتق الأخطاء وإنما كان بدافع المصالح / طفلة في السادسة تقتل بكل وحشية / نفوق الأسماك تسبب في تلوث المياه العربية ) وتتداعى الأحداث لتصبح المسرحية صرخة في وجه الصمت العربي الذي يتحمل وزره الحكام الذين لجئوا إلى إلهاء الناس عن قضاياهم المصيرية ويستعين المسلم بشخصية المذيعة (يلدا) كرمز للإعلام العربي وفضائياته التي تقوم بدور التخدير للعقول العربية وغسل أدمغتها وفي النهاية نرى (نفوق السمك) يصاحبه (نفوق البشر).

وطبقا لرؤية فاروق أوهان التنظيرية استطاع حسين المسلم (تأليف وإخراجا) أن يوجد ما يتلاءم مع خواص المسرح مما هو قائم وناتج ومتضمن في بحور الفلكلور الجارية فليس كل ما في السيل الذي يحمله مناسبا للتحديث وبالذات للمسرح وتمكن من أن يرى بعين الرؤية المعاصرة ما قد يتوافق وفنون العرض المعاصرة من هذا القديم ونظر إليه من زاويته الشرقية العربية الإسلامية لا من المنظور الذي تطبعنا عليه .

ولم تعوز المسلم الحيلة في انتقاء الموضوع للنمط المسرحي القديم الذي يريد له أن يتمسرح فهذه الموضوعات متواجدة ومتجددة منذ الخليقة مادام هاجس الإنسان واحدا ولكن على المؤلف / المخرج أن يتعرف على مميزات كل نمط مسرحي قديم وتحليله للعناصر المناسبة والقريبة للذهنية العربية الإسلامية المشرقية وبشيء من الحداثة التي علينا ألا نخرج معها من الثوب الوطني .

وظهر من خلال المسرحية مثلث العلاقات (المبدع – النص – المتلقي) في شكل دائرة علاقات لأن الشكل المسرحي خارج من سياق اجتماعي ينتمي للحوش والحارة والديوان ولابد من دراسته جيدا قبل نقله إلى الخشبة المسرحية التي خرج عن إطارها العرض على صالة الجمهور .

وقد حقق العرض فعلا مسرحيا كفن وكفعل معتمدا آلية الخرق والتجاوز للقواعد المسرحية إضافة إلى تخطيه لأزمة الثقافة المسرحية في دول الخليج العربي وهي إشكالية (الوجود الإنساني) وناقش مستويات اللغة التي تراوحت بين الدرامية والغنائية والبناء الغنائي والاستعراضي والدرامي والقيم الشعبية للمجتمع العربي وطابعه القبلي الممتد في الحاضر.

فإذا ما توقفنا عند الرؤية السينوغرافية في العرض وكيف تعامل حسين المسلم مع الفضاء المسرحي نراه اتخذ بعدين : أحدهما رمزي والآخر واقعي وحاول في الوقت ذاته خلق الأجواء التي تعيش فيها الشخصيات والتي هي أساسا مستوحاة من أحاسيسهم وأوضاعهم الاجتماعية والنفسية والتي تعكس بدورها خراب العالم المحيط بهم وانغلاق الآفاق أمام أحلامهم وطموحهم .

وقد انحلت عقدة التلقي عند المشاهد عبر هذا العرض المسرحي وأصبحت المسرحية أكثر انفتاحا على الجمهور وتواصلا معه من خلال مراعاة المؤلف لقواعد التجريب التي ذكرها الدكتور هاشم توفيق وهي على النحو التالي:

  • أن قيمة العمل المسرحي ليست في حقيقة أنه من المفترض أن يكون تجليا خارجيا للمشاعر الميتافيزيقية التي تعبر عن تجربة الفنان ولكنها لابد أن تثير نفس المشاعر في نفسية المشاهد الذي يمكنه من خلال الإدراك الحسي للشكل الخالص الموجود على خشبة المسرح أن تتحرك مشاعره الميتافيزيقية.
  • أنة هذه المشاعر يصورها رواد التجريب في العالم من أمثال جروتوفسكي على أنها مجموعة من الموجات المتلاحقة تنفذ من خلال كل مجالات الفنان النفسية وتصبح الدافع الأساسي للفعل الإبداعي ثم في النهاية تظهر كتعبير خارجي في بنية العمل الفني الحقيقي.
  • أن هذه الخبرة التراكمية تتطلب إدراك الفنان لقواعد التعددية والوحدة فالموجات المتلاحقة متعددة يتحول بعدها هذا التعدد إلى تكثيف أو وحدة يظهر من خلالها وجود الفنان الخاص في بناء موضوعي مستقل والذي من صفاته أنه تعبير عن الذات الفردية لهذا الفنان والتي بدونها لا يمكن أن يكون هناك وجود لما يسمى بالعمل الفني الأصيل بمعنى أن الفنان يقدم في بنائه الفني وحدة الأنا والتي تنعكس في وحدة البناء الشكلي للعمل الفني وبمعنى آخر أن هذا الشكل الذي يظهر فيه العمل الفني (المسرحية) يتضمن محتوياته الحقيقية الميتافيزيقية وهذه المحتويات لا توجد منفصلة عنه نهائيا لأنها مع بعضها البعض في النهاية تكون الوحدة المطلقة.
  • إن الفنان الذي يقدم عرضا تجريبيا لابد أن يكون قد مر بعدد من التجارب نتج عنها خبرة تراكمية من المشاعر الميتافيزيقية التي تعتبر الشرط الضروري والأساسي لأي عمل إبداعي .
  • يجب ألا نغفل القول بأن عملية إدراك المتفرج من أشد العمليات تعقيدا وأن المتفرج يجمع من هذا الإدراك الحسي حصاد مكونات العمل الفني في وحدة كلية تمثل الرمز المباشر لمركب الوجود ذاته والذي يثير داخله مشاعر لابد وأن تقدم بعدا جديدا يسمح له أن يحقق من خلاله وحدته الشخصية .

ومن هنا يمكننا القول أن المتفرج يدرك نفسه والعالم المحيط من خلال المسرح التجريبي بطريقة مختلفة تماما عما هو متبع في المسرح الكلاسيكي أو الرومانسي الذي يمثل الواقع .         

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى