المنهزمون يعلقون شمعتهم على جدران أمريكا
جوتيار تمر| كوردستان
تراقب الدول التي تعيش على مخلفات الحروب والهزائم ولم تزل الفوضى عارمة في بنيانها على جميع الاصعدة – السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، المذهبية ، النفسية، وغير ذلك – تراقب الانسحاب الممنهج والمبرمج للقوات الامريكية وقوات حلف الناتو من افغانستان، وبغض النظر عن الاثار التي خلفها ذلك الانسحاب، فانه لابد من النظر الى منهجية الانسحاب، وليس الى الخزعبلات الاعلامية التي تطلقها وسائل الاعلام الشرق اوسطية بصورة خاصة، والشرقية بصورة عامة، فالانسحاب لم يأتي الا لخدمة مصالح دولة تعتمد في سياستها بالدرجة الاساس على ايجاد منافذ لتقوية اقتصادها أينما كانت، ولخدمة سياستها في المناطق الاستراتيجية كيفما كانت، ومن تلك النقطة الاساسية، نلاحظ بان غالبية الدول التي تعيش وهم الحريات، المنغمسة في الفوضى العسكرية والسياسية والفوضى الاجتماعية والتجزأة والتفرقة المذهبية الدينية، تعلق شمعة هزائمها، وتخلفها، وفوضاها على جدران السياسة الامريكية التي هي في الاصل سياسة تخدم مصالح دولة وقوة عظمى.
ما ان بدأ الانسحاب الامريكي وحلف الناتو من افغانستان، حتى بدأت المقارنات تظهر على السطح، خاصة من الدول التي تعاني انكماشاً سياسياً خارجياً وانكماشاً اقتصادياً وانكماشاً عسكرياً جراء السوط الامريكي، هذه الدول اصبحت تطلق عبر وسائل الاعلام المرئية والسمعية ومواقع التواصل الاجتماعي شعارات باهتة، لاتنم عن الحقيقة بشيء، بل هي اشبه بالفاقاعات التي لاتصمد امام نسيم عليل، ومن تلك المقارنات، والمقاربات ، والخزعبلات، ان امريكا لاتدخل بلد الا وتجعله في الحضيض، وامريكا لايمكن الثقة بها، والسياسة الامريكية لاتصمد امام الشعوب الحرة، والقوات الامريكية لاتستطيع مواجهة جند تلك الدول فتنهزم وتهرب وتخرج من تلك البلدان، وان امريكا ليست صديقة لاحد، انما هي صديقة مصالحها فحسب، وحين نضع هذه الشعارات تحت المجهر، سنلاحظ امراً مهماً جداً، وهو ان كل الدول حتى الدول النامية التي تعيش على نفقات الدول الاخرى، انها تمارس نفس السياسات سواء على جبهتها الداخلية او الخارجية، فجيوش هذه الدول تتقاتل فيما بينها، وتضظهد شعوبها، وترتمي في احضان من يدفع لها اكثر، وتتحالف مع من يدعم مذهبها، دينها، وتبني علاقاتها الخارجية على اسس مذهبية ولائية، وتكون اول جيوش فارة من ساحات المعركة حين تبدأ المواجهات، ولذلكنتساءل ما الفرق اذا بينها وبين امريكا..؟ ، فالاخيرة ان خرجت تخرج لمنطق وسياسة ودراسة ووعي، وان بقت تبقى لمنهج ورؤية ودراية ومصالح، اما المقابل الذي يهاجم امريكا فانه يعيش في الاصل في الفوضى، والفوضى ليست بسبب الوجود الامريكي، انما الفوضى موجودة في بنيته الفكرية الاجتماعية السياسية الاقتصادية المذهبية، ولكنه يعلق شمعة هزائمه وفوضاه وعدم قدراته على التحكم بما بين يديه، على التواجد الامريكي.
في قراءة محايدة، للانسحاب الامريكي في افغانستان، العالم يعيش وفق مبدأ القطبية الواحدة منذ انحلال الاتحاد السوفيتي، وامريكا كانت ولم تزل القطب السياسي العسكري الاقتصادي الاوحد في العالم، وفي الاونة الاخيرة لاحت بوادر ظهور قوة اقتصادية عالمية شرقية كبيرة، والتي تتمثل بالصين الدولة التي باتت رقماً اقتصادياً مهماً في العالم، وذلك ما يستدعي اتباع سياسة ممنهجة جديدة في المنطقة من قبل امريكا، بلاشك ان الامر لايتعلق بحقوق الانسان، والشعارات التي تطلقها امريكا نفسها بهذا الشأن، انما الامر يتعلق بالمنطق السياسي والاقتصادي والجيوسياسي، وبالتالي لابد من اتباع ما يخدم المصلحة الامريكية، ولايهم الخزعبلات التي ستطلقها الشعوب في المنطقة لانها دائماً تبحث عن منفذ لتفرغ من خلاله الكبت الهزائمي المتوالي والمتكرر كي تقول لشعوبها المضطدة بأن القوى الكبرى هي التي تسبب في ضياعهم وفي حالتهم المعيشية المعدومة والميؤسة وفي خضوعهم وعدم قدرتهم على التطور.
الصين كانت اول واكثر الدول مراقبة للانسحاب الامريكي وحلف الناتو من افغانستان، وراقبت ذلك الانسحاب بقلق كبير وعدم ارتياح واضح وظهر ذلك في خطابها وتحركها الفوري، فقد عبرت الوزارة الخارجية الصينية في الخامس من شهر ايار 2021 عن قلقها بتصاعد العنف في افغانستان، وعللت الامر بانه نتاج طبيعي للانسحاب الامريكي المفاجئ بحسب قولها، ولنسلط الضوء على اسباب القلق الصيني، تحاول الصين احتواء التداعيات السلبية لتلك الخطوة الامريكية، على افغانستان والاقاليم التابعة لها، وهنا السؤال لماذا تهتم الصين باستقرار افغانستان,.؟ ، الجواب يكمن في السياسة الامريكية التي يراها البعض فشلت في افغانستان في حين، ان الامن القومي الصيني نفسه بات مهدداً بانهيار جدار افغانستان ووقوعها تحت يد القوات الطالبانية المتشددة، إذ تشترك الصين مع افغانستان في حدود طولها 80 كليومتر تقريباً، ومن الجهة الشمالية الشرقية للاخيرة وهي حدود مع منطقة شينجيانغ ذات الاغلبية الايغورية المسلمة، وبصورة اوضح اصبحت حركة طالبان الان تتحكم بشكل كامل في ممر واخان واقليم باداخشان على الحدود الافغانية مع اقليم شينجيانع الصيني الذي يعيش في الاصل اضطرابات وفوضى بسبب سياسة الصين تجاه الايغور، وهنا يكمن بيت القصيد من الانسحاب الامريكي الممنهج او لنكون اوضح بعض ما يظهر من النهج الامريكي تجاه الصين، وليس كما يقول البعض انهزام امريكا في افغانستان، الفراغ الذي تركه الانسحاب الامريكي يمثل الان القلق الاكبر للسياسة والحكومة الصينية، لكونها تخشى ان تتسرب المجموعات الاسلامية المسلحة الايغورية الى داخل افغانستان وتنضم الى حركة طالبان بقيادة زعيمها الحالي الملا اخوند زاده الذي استلم قيادة الحركة بعد وفاة سلفه أختر محمد منصور 2016، وبالتالي تكون قاعدة لهم لشن هجماتهم على اقليم شينجيانغ ذا الاغلبية الايغورية المسلمة، بعبارة اوضح نقل فوضى الحركات المتشددة الى داخل الاراضي الصينية، وعلى هذا الاساس بدأت الخارجية الصينية بمحاولة جادة بتوثيق علاقاتها مع طالبان منذ بداية ظهورها على الساحة الافغانية، وتكللت تلك الجهود بزيارات ووفود عديدة، ولعل اخرها كانت في 2019 حين استقبلت احد اهم قيادات طالبان – عبدالغني بردار – والوفد المرافق له، كما انالصين حاولت منذ سنوات طويلة الحصول على اتفاق اقتصادي مع حركة طالبان، وقد بدأت بتلك المحاولات اثناء عقد اتفاقية السلام 2015، وكانت قد افتتحت رحلات شحن مباشرة بين افغانستان والصين اثناء سلطة الحكومة الافغانية المنهزمة ففي اواخر عام 2018 وفي عام 2019 تم افتتاح خط قطار بضائع بين البلدين، الا ان كل ذلك مازال قيد التفاوض او قيد الفرضيات، اما الواقع الملموس فهو ان الانسحاب الامريكي خلق واقعاً جديداً في المنطقة، وادخل احدى اكبر الدول المنافسة لها اقتصادياً في معركة جديدة قد تخوضها في المستقبل القريب مع الجماعات المسلحة الايغورية التي قد تجد لنفسها دعماً من حركة طالبان، كورقة ضغط على الحكومة الصينية وحتى مع الغرب في المستقبل القريب، لاسميا ان ولاية خراسان التي تقع تحت يد تنظيم داعش الارهابي في شرق افغانستان قد تكون ملاذاً آمناً للمنشقين عن طالبان التي تحاول اقصاد داعش والتخلص منها.
السياسة الخارجية الصينية ترى في وجود تنظيمين متشددين متزامنين في منطقة واحدة، وهي منطقة حدودية معها، ستشكل في العاجل القريب ورقة تهديد لامناص منها بيد تلك الحركات، فحركة طالبان يمكنها بعد ان سيطرت على افغانستان بالكامل ان تستعمل ورقة داعش للضغط على الصين، لاسيما فيما يتعلق بحقوق المسلمين الايغور هناك، الامر الذي دفع بالصين الى محاولة انشاء قادعة عسكرية في اقليم بادخشان تحسباً لاية تعقيدات، وعلى الرغم من عدم قدرتها على انشاء تلك القاعدة لرفض طالبان، الا انها استطاعت الحصول على إذن بانشاء واحدة اخرى في طاجكستان بالقرب من الحدود، والصين تدرك تماماً بان وقوع افغانستان بالكامل تحت سلطة حركة طالبان سيكون لها اثار سلبية على السياسة الصينية في المنطقة، فهي تريد على الاقل ان تبقى بعض المناطق خارجة عن سلطتها، لكون ان حركة طالبان وبحسب وجهة النظر الصينية موالية للغرب – امريكا – وللهند ايضاً التي تشكل معضلة للسياسة الصينية في المنطقة، فالامر اصبح بوجهة النظر الصينية لايحتمل التفكير والتأمل فقط انما التحرك السريع لاحتواء الفوضى الناتجة عن الانسحاب الامريكي، فبوادر صراع جيوسياسي بين القوى الاقليمية بات امراً لامناص منه لسد الفراغ الذي تركه الانسحاب الامريكي، لاسيما اذا ادركنا امكانية قيام كل من باكستان الاسلامية مع الهند المتعددة الديانات باستغلال افغانستان وتحويلها الى ساحة صراع بينهما، ومد نفوذهما، مع عدم نسيان الروس الذين قد يشاركون الصين في قلقهم، لأن اضعاف الصين بالتالي سيكون ذا تأثير كبير على روسيا نفسها سياسياً وفي صراعها المزمن مع امريكا، فضلاَ عن ادراك تام للصين بان امريكا لن تدع طالبان تتحكم بالامور لوحدها وانما ستبقي على المعارضة ايضاً لخلق توازن لمصالحها اذا ساءت الاحوال.
على هذا الاساس فان امريكا توجه رسالة واضحة للجميع دون استثناء، وهي ان سياستها لاتعتمد على الاسماء والقوميات وما يمكن ان نسميه حقوق الانسان، انما هي سياسة تهدف الى حماية مصالحها في كل بقاع الارض، وما يهم الامريكي هو ما في جوف الاراضي من نفط ومواد خامة واولية تساهم في مد الاقتصاد الامريكي بالقوة والمتانة، فضلاً عن زعزعة الاوضاع لمن يريد ان ينفاسها اي كان واين كان، وبالتالي فان انسحاب امريكا من اي منطقة سينجم عنه تداعيات هي سلبية بنظر الاخرين، ولكنها ممنهجة ومبرمجة بنظرها، ولانها تؤمن بنفسها، لذا لايهم لديها ما قد يحصل للشعوب ولا حتى للحكومات ولا حتى للجماعات المتحالفة معها، المهم لديها ان مصالحها تبقى مستمرة مستثمرة وان تبقى هي الحل الذي يتم الرجوع اليه حين لايكون هناك حل، ومن ذلك ذلك المنطلق تبقى شعارات الحكومة المنهزمة داخلياً غير قابلة على التأثير لا على الواعين ممن يدرك منهجية وبرمجة سياسة الدول الكبرى، مقارنة بالفوضى السياسية والاعلامية والاقتصادية والعسكرية التي يعيشها المنهزم، فلايجد الاخير الا شمعة امريكا ليعلق عليها هزائمه وعدم قدرته على البقاء مستقلاً وحراً وصاحب سلطة على ارضه وعلى شعبه.