غالب هلسا والكاتبة وفاء كمال الخشن وجهًا لوجه (1)

إن لقائي مع الشاعر محمد الماغوط شكل مفصلاً حاسماً في مسيرتي الصحفية . حيث بدأ رئيس التحرير يكلفني بمهام صحفية أوسع بسرعة متنامية . وأوكل إلي مهمة تغطية النشاطات الأدبية والفنية وكان ابرزها نشاطات المهرجانات السينمائية والمسرحية التي أتاحت لي فرصة التعرف على المزيد من فناني الوطن العربي . وصدف أن التقيت في ساحة فندق ميريديان دمشق بالروائي الأردني “غالب هلسا ” أكثر من مرة وتجاذبنا أطراف الحديث كانت تجتمع حوله الفتيات رغم كبر سنه لروحه المرحة وابتسامته التي لاتفارق شفتيه .

وقدأوسع لي مكاناً بقربه ذات يوم، حيث كانت ساحة الفندق مزدحمة وأردت ان ألتقي بالفنان أحمد زكي وأنقل حديثه للمجلة .قلت:

ـ شكراً أستاذ غالب .

قال:

ـ أتعرفينني ؟ 

قلت: وهل يخفى القمر؟

ضحك وخاطبني بلكنة مصرية (تصورت أنه يتصنع لأنني أعرف أنه أردني)

ـ شكراً يا ستي

ـ هل قرأتِيني .

ـ رواياتك كثيرة وطويلة ربما أموت قبل أن أقرأها

قرأتُ رواية السؤال ( بطلوع الروح و(الخماسين) لم أكملها .

ـ وهل أعجبتكِ

شعرت بالحرج والخجل لأنني لم أكن أحب ذلك النوع من أبطال الروايات أو بالأحرى لم يعد عالقاً بذهني من روايته ” السؤال ” سوى تبني البطل لشخصية المومس الفاضلة وكنت أشعر أن البطل هو غالب نفسه .كنت أخجل من الحديث عن هكذا مفاهيم تخص المرأة وأخجل أن أداقع عن المومس حتى لو تعاطفت معها

كان البطل في الرواية يلقن البطلة ” تفيدة الأفكار الشيوعية وكنت أكره الشيوعية وأربطها بالكفر والإلحاد ودون أن عرف عنها سوى مقولة ماركس :” الدين أفيون الشعوب”

في الوقت الذي كان اختلائي بالصلاة يمدني بطاقة روحية هائلة ويعزيني الأمل بمكافئة سماوية تنتشلني من حالة الفقر المدقع . ويصب طعماً حلواً في الكأس المر الذي تسقينا منه الحياة .لم يكن لدي تبرير منطقي لهذا الإحساس العفوي أبداً . لم أكن أفهم أن الأديان يمكن أن تسوق لمشاريع سياسية. أو تبارك بعض النظم. ولم أكن أعرف أن أوروبا كانت متخلفة في ظل هيمنة الكنيسة . ولم أكن أعرف أن هيمنة التراث الديني .لن تقدم لي إجابة عن كل التساؤلات التي تشغلني اليوم حول الحياة والوجود والعدم .

حاولت التهرب من النقاش معه لأنني كنت أشعر بالرهبة وخصوصاً أنني لم أقرأ الفكر الماركسي ولم أفهم عنه شيئاً فقد كان رأس مالنا أنا وعائلتي الفقر والتشرد. وكان أجمل بكثير من رأسمال ماركس واعتذرت بسبب موعدي مع الفنان المصري أحمد ذكي .

لكن عدت أراه باستمرار في ساحة الفندق طيلة خمسة عشرة يوما وقررت أن أجري معه حوارا للمجلة بعد أن أنهيت روايتين من رواياته

كنت ألتقي به كثيراً في المناسبات الفنية أو الأدبية .وكلما تصافح نظرانا كان يبتسم . فأمضي وأنا أحمل المزيد من الدهشة والتساؤلات حول هذا الجسد الذي لايألف الراحة وهو يجلس بين صفوة من الكتَّاب والشعراء, يهبهم طراوة الحديث ونضارة الأفكار . حتى أصبحت ممن يحبون لقاءه والاستمتاع بمجلسه ونقاشاته وتجلياته .

وفي المرة الأخيرة التي رأيته بها, استبقني بنظرة طفل غرير وابتسامة عذبة, وبدماثته لامتناهية قال :

ـ هل زعلتِ مني بالأمس ؟

قلتُ: متلعثمة لا لكل إنسان ظروفه .

قال: أنا اليوم مرتاح وجاهز للحوار .

قلت:

ـ أنا ” بقى ” لستُ جاهزة للحوار .مضطرة أن أذهب لتغطية نشاط المهرجان السينمائي اليوم ..

ضحك قائلاً:

ـ هذا يعني أنكِ مازلت غاضبة مني .

ـ وهل تعتقد أني ” تفيدة أو سلطانة ” تزعلني متى تشاء, وترضيني متى تشاء؟!

أنا لست بطلة من أبطال رواياتك .

ـ وهل تكرهين أن تكوني بطلة من أبطال رواياتي؟

ـ بصراحة لستُ من أنصار هذا النوع من البطلات اللواتي يزرْنَكَ في أوقات القيلولة , وفي الأجواء الخماسينية الحارة .

ـ تقصدين ليلى, صدقيني أنا مظلوم .ليلى كانت طالبة في معهد السينما, جاءت لزيارتي وكانت مشمئزة من ذلك الحر. يومها خرجنا وجلسنا في كازينو ثم أوصلتها إلى موقف الباص وعدْتُ راجلاً.

قلت ضاحكة:

ـ أردتَ أن تحلم دون أن يقطع عليك السائق أحلامك .

ـ لا والله …لم أكن أحلم .بل كانت حرارتي تكاد تقارب الأربعين درجة .

ـ إذًا عدتَ سيراً على الأقدام لأنك دفعتَ كل ماتملك في الكازينو, ولم تحتفظ بأجرة الركوب

ــ ليه فقد كنتُ أعمل في وكالة أنباء وكان لدي فلوس كفاية .

ـ هذا يؤكد أنك بطل الرواية الذي كان يقوم بنفس العمل. حتى اسم البطل كان نفسه. وقد تحدثتَ في الرواية عن تجربة السجن في مصر .فهل سُجِنتَ هناك ؟

ـ لقد كان ذلك في زمن ملاحقة اليساريين في مصر. وسُجنتُ لأسباب سياسية في سجن القلعة في القاهرة .

ـ ولكنني كررت قراءة هذا المشهد أكثر من مرة لأعرف ماذا حلَّ ببطل الرواية “غالب في السجن؟ وأي عذاب كان يعاني ؟ . ولم أعثر على صور كثيرة تروي شغفي لتلك المعرفة .

ـ “يبقى كنتِ عايزة تشمتي فيَّ ” .

ـ لا والله كنت عايزة أحس بوجعك

يتبع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى