قراءة نقدية في ( أنشودة شمس ) لـ” بشرى أبو شرار “

وليدة محمد عنتابي | سوريا

شمس الأعماق تسطع في الآفاق

تأسرني درة أخرى من فرائد الأديبة العربية اللامعة الأستاذة : بشرى أبو شرار ،  مهداة إلى أمها التي تفرز رمزا أثيرا لديها لارتباطها بالأرض ، مشكلة  في وعيها الدفء والاحتواء  .

تبدأ الرواية بمدخل يمهد لمقاطعها التي صاغتها كأناشيد هي بمثابة لوحات لمناجاة مطولة بينها وبين الآخر الذي يربط بينها وبينه حبل هواء على حد تعبيرها .

ذلك الآخر الغائب عن العين والماثل في الوجدان.

تبدأ الرواية بمدخل يمهد لمقاطعه التي صاغتها على شكل لوحات عنونت كل لوحة منها بأنشودة أخذت رقما ، في تسلسل محفز لمتابعة مجريات أحداثها من وراء ستار شفاف سارد لمشاهد طبيعية ووجدانية  آسرة .

يتوزع المدخل بين حراك مشاغب وسكون راصد ، لتنطلق إلى أناشيدها ، تلك الأناشيد التي تشكل فصولا لرواية تكاد تتبدى مقاطع من شعر منثور ،  تبوح من خلاله بكل ماحفلت به روحها المتوثبة من تعطش للتواصل والخروج من مضيق الأنا إلى فضاء الآخر ، لتنهي تلك الأناشيد بخاتمة تفترش فيها نصاعة أوراقها وقد تحررت  من سطورها لتحلق في سماء الحياة، حيث  تعود على حوافي زهور الليلك زهرة برية ، وبالتالي طفلة صغيرة تغادر حضن أمها .

تحكي بشرى أبو شرار ، حكاية المهجر الذي تتقاذفه أقطار الأرض في مشارقها ومغاربها ، وقد امتطت متن السرد المغاير للتقليدي  في تشكيل مجدد أضفى على الرواية حيوية الخروج عن المألوف ، لتجعلنا نترنم مع أناشيدها متشوقين إلى الدخول في جوانية مشاعرها وأحاسيسها، في تواصلها مع الغائب الحاضر ، خلال خيط هواء ،  هو كل ما يمكن أن يؤكد لهما أنهما على قيد حياة .

تتجلى الأم كارتباط أسمى في مفهومها، وكمرجع حميم تماما كما الأرض هي .

( أمنيتها لو تفترشه وتطلق لجسدها العنان ، تريحه وتجوس براحتها في تراب الأرض  تفركه بين أناملها ، تتحد بطينه ، ثم تعقد راحتيها تحت رأسها كوسادة  ، تعانق الفروع والوريقات وأحمال الزيتون ، تحبسها كتنهيدة في صدرها ، لا تطلقها للريح ويسافر بها بعيدا  ) .

في شتات مطلق يسكنها هاجس العودة، حيث يكبر الصغار بعيدا عن منابتهم ، و(كيف يصبح الكبار صغارا في عالم ليس لنا ) .

تشكل الزنبقة لديها رمزا للنقاء والطهر ، فتراها تخاطب ابنتها علية (يا زنبقتي الوحيدة .. هل نظرت حولك وتأملت المكان جيدا بعد شهقة من عطر أنفاسك الطيبة .. ) .

تأخذنا أنفاسها الروائية المعطرة بأبخرة سحرية ، إلى أجواء منداة بقطرات منعشة ، هي خلاصة إكسير سري التركيب ، ينشي الحواس ؛ وتتلقفه الذائقة مهيبا بنا أن هيا لنحي تلك المسكونة بهاجس الحرية والسارية في مداها الأقصى (ابنة الأثير أنا .. منزلي في السماء  ، أمقت التقيد والأغلال ، تبحث عني ابتسامة جريحة صاعدة من أعماق الأرض ، أهداب ثوبي تطلق سراح جسدي  ، أركن للخواء حتى القاع،  أرنو للنجوم النائية ..  ) .

إنها في تفردها اللافت وخصوصيتها المميزة  تتأبى على الانصياع لبهارج المدنية ومغرياتها وبالتالي فهي لا تخشى الظلام لأنها الشمس في حقيقتها المطلقة ، وقد ذرت إنارتها الأبدية .(زهرة الأقحوان لا تعرفها مصابيح المدينة .. ولا تخاف من حزن الليل، لا تلم  أوراقها إلا على خيوط الشمس الأبدية ، تلهب قلبها فتصير أوراقها أجنحة تحلق وراء الشمس .. ) .

إنها في خطابها لأمها الراقدة على فراش النهاية تبسط جناح الحب من اللوعة لتظلل هجيرالمعاناة (أمي من علمتني أسماء الفصول، ورائحة الأرض، تفوح بقوة، وأشجار نخرة،  وشحبرات وليدة تشرع للجفاف والذبول قبل  ان تبلغ نضجها ،  قلبي يرتجف وأنا أقتفي زهرات البنفسج ، تعانق وجهي خيوط العنكبوت اللزجة وأنا التي أسكن أعماقي ، لا تبلغني أشعة الشمس ، هل جف نبعي قبل الأوان؟) .

في أناشيدها الثماني والخمسين عوالم من أثير  تستقطب روحها الفتية العالقة بين ارض غير متاحة  وسماء تسطع بشمس أعماقها ناشرة أشعتها المتجددة على الدوام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى