أدب

أشباه البشر

قصة قصيرة بقلم: طارق حنفي

لم أستطع تحديد اللحظة التي تحولت فيها دفة الحديث، حاولت كثيراً، وفي كل مرة أعود إلى نقطة البداية..

لقد بدأ كثرثرة عادية بيني وبين زميلي في العمل “هاني“، يجمع مكتبينا غرفة واحدة، بابها على يسار مكتبي، وعن اليمين يحتل الحائط- كله – مكتبة عتيقة تستخدم لتخزين الملفات، وأمامي يجلس هو على مكتبه..
واحدة من الأحاديث الروتينية المليئة بالهمهمات والإيماءات دون عناء النظر، والتي من شأنها أن تشبع جو الغرفة بالبرودة، لكنه اتخذ منحى مختلفا تماما.

كنت متمسكا بحبل أفكاري أجذبه بكل قوتي حين قطعته صرخة أطلقها “هاني“ – فجأة – وهو عالق بين مكتبينا، يتحرك أمامي يميناً ويساراً في حماسة لا تتناسب وطبعه الرصين..
ثم أخذت الكلمات تنساب من فمه كالحمم، حتى أن حرارة الغرفة بدأت ترتفع، وهو يقول: “أنت لن تصدقني؛ إنه أمر عجيب، لكن أقسم لك، يا شريف، أنه قد حدث فعلا”..
أخذ يحرك كلتا يديه أمام وجهه قائلا في عصبية: “كنا نجلس معا، ثم فجأة تحول لون وجهه إلى الأحمر وزاغت عيناه، قبل أن يغوصا في محجريهما”، نطق الجزء الأخير من كلامه في دهشة حقيقية وهو يتطلع إلي في حيرة.

كنت على وشك أن أخبره أني قد رأيت مثل هذا الأمر أيضا، لقد أصبحوا يحيطون بنا من كل صوب، حتى أظنهم على وشك الانقضاض علينا والفتك بنا..
فتحت فمي بالفعل لأخبره عن السر الكبير، بعض الكلمات بمجرد أن ينطقها أمامهم تكشفه على الفور، تمثل مفاتيح، ولكل واحد منهم مفتاحه الذي يسبر أغواره، فيتحول في الحال..
ربما نطق – دون أن يدري – الكلمة التي تناسب نفسية محدثه؛ فتحول لون وجهه أمامه..
يتحول لون الوجه ليس فقط إلى الأحمر ولكن لألوان مختلفة بحسب الكلمات..
لكنه عاد إلى دهشته قائلا: “إنه يشبه البشر، ويتكلم بلسانهم، بل ويمشي على قدمين مثلهم..
صمت أخيرا، ثم أسرع يقول: “هل هو فعلا إنسان؟ هل ما رأيته من تغير لون وجهه وزيغ عينيه مجرد وهم؟!”.

فتحت فمي بالفعل هذه المرة لأخبره أن أكثر ما يفضحهم هو النظر داخل أعينهم، إذا نظرت داخل عيني الواحد منهم لن ترى شيء سوى الظلام، لقد صاروا بلا روح..
لكني عدت وأطبقت شفتي رغما عني؛ لقد اقتحم علينا الغرفة زميل آخر، ينظر إلي نظرات عجيبة كمن يقذفني بسهام من الحسد، قبل أن يقول بصوت عجيب: “ الحادثة مروعة، الأطباء يقولون إنه لن يستطيع العودة إلى العمل مرة أخرى”..
سأله ”هاني“ في لهفة: “ماذا حدث؟ من هو؟”، لكن الزميل لم ينطق بحرف واحد؛ كان مشغول بالنظر إلي، وعينه تطلق السهام تباعاً..
راودتني حوله الشبهات؛ مما جعلني أنطق بكلمة “الحسد” في وجهه..
انتفض جسد هاني ولون وجه الزميل يتحول بالتدريج إلى الأصفر.

قال ”هاني“ في دهشة: “إنه واحد منهم، من أشباه البشر”، التفت الزميل بآلية صوب هاني، وبوجه كساه الصفار تطلع إليه، وبصوت معدني رتيب قال: “ماذا تعرف أنت عن البشر أو أشباه البشر؟ أنت تعيش بمفردك بلا أي التزامات، لا تثقل كاهلك الأعباء، لم توضع يوما في مواقف تضطر فيها إلى الاختيار بين نجاتك أنت وأسرتك أو نجاة غيرك، بين حياتك أو حياته”..
قاطعه “هاني“ مستنكرا: “لكن لماذا يجب أن يحيى أحدكما فقط؟ لماذا لا يحيى الجميع معا؟!”.

ضحك الزميل ضحكة تردد صداها المعدني في الغرفة قويا، وهو يقول: – لأنها القوانين..
هاني : – إنها قوانين الغاب وليست قوانين البشر، هناك ما يسمى بالصفات الإنسانية والتي تجعل منا بشرا؛ هي ما يتيح لأحدهم أن يعيش بجوار الآخر في سلام وأمان..
ثم تمتم في شرود: “ لكل واحد منهم كلمة خاصة، تفرق بين كونه بشريا أو من أشباه البشر”..
ثم استطرد في حذر: “لكن، كيف نعيده إلى حالته الأولى؟ كيف نجعل لون وجهه وصوته وعينيه يعودون إلى طبيعتهم؟”..
كان السؤال مفاجئا لي بالفعل، حدقت في الزميل وأنا أتمتم بيني وبين نفسي: “بالفعل، كيف يمكن لأشباه البشر أن يعودا بشرا مرة أخرى؟؟”.

ربما أصابتني سهامه أو هي كثرت الكلام؛ شعرت بدوار فاعتذرت واتجهت إلى مسكني..
وبمجرد أن عبرت الباب وضعت المفاتيح والهاتف المحمول على طاولة بجواره، اتجهت إلى الأريكة، ألقيت جسدي المنهك عليها..
أشعر – على غير العادة – بالإجهاد ينتشر في ربوع جسدي كالنار في الهشيم، ها هو يصل إلى رأسي ويهجم على عقلي ليغلفه بقطع من الليل المظلم..
قاومته، فتحت عيني في ضعف وأنا أتمتم في حيرة: “لكن كيف للشبيه أن يعود بشريا مرة أخرى؟؟”، رن الهاتف المحمول في إلحاح..
قمت أجر قدمي إليه، أمسكت به وفتحته: “ألو، مرحبا هاني، ماذا هناك؟ قد عرفت الكلمة التي تجعلهم يعودون بشرا مرة أخرى؟ تقول إنك جربتها مع ذلك الزميل بعد أن غادرت أنا العمل، وقد أفلحت معه؛ وعاد بشريا مرة أخرى، آه الكلمة هي… نعم، نعم عرفتها، مع السلامة”.

ألقيت بجسدي على الأريكة مرة أخرى، ثم تذكرت أمر الحادثة، وكيف كان ذلك الزميل ينظر إلي في حسد قبل أن يتحول، كان يخبرنا بأن المدير لن يستطيع العودة إلى العمل مرة أخرى، همست: “لكن لماذا كان ينظر إلي أنا بالذات في حسد هكذا؟، آه، الجميع يعلم أنني من سيأخذ مكان المدير الآن”..
انتفض جسدي والهاتف المحمول يرن في يدي الرنة المحددة لاستقبال البريد الإلكتروني، قرأت محتواه، الشركة تعلن الأمر بصورة رسمية؛ لقد أرسلت رسالة تأكيد بأنني قد أصبحت مديرا..
انتابتني مشاعر غريبة؛ أشعر بالظمأ الشديد، وبحكة في رأسي، ثم بدأ يحدث ذلك أمر عجيب؛ لقد بدت الصالة كأنها تنكمش وتتمدد أمامي، الرؤية تخفت وصوت صافرة حادة يخترق طبلة أذني بقوة، يكاد معها أن يمزقها، وكما بدأ كل شيء فجأة هدأ فجأة..
ألتقط أنفاسي في صعوبة، ماذا يحدث لي؟ هل أصابتني سهام حسد زميلي بالفعل؟ أشعر بجلدي يذوب وبلحمي يحترق.

هرولت مسرعا إلى غرفة النوم؛ أتطلع بلهفة إلى صورة وجهي المنعكسة في المرآة، يبدو عليه الشحوب والإجهاد، خيل إلي أن صورتي في المرآة تبتسم، مهلا إنها الآن ترقص فرحا، كأنها تعكس صورة غير صورتي! أو كأنها قد استقلت عني!
جالت في خاطري فكرة عجيبة نظرت إلى صورتي وأنا أنطق كلمة من الكلمات العديدة، الكلمة التي تفرق بين البشر الحقيقيين وأشباه البشر في حالتي..
فتحت فمي أقولها بصوت عال: “الشماتة”، لقد نطقت الكلمة، لون وجه صورتي في المرآة يتغير إلى البرتقالي، اقتربت أكثر وأنا انظر في عيني الصورة لكني لم أرى سوى الظلام..
ثم انتبهت إلى أن يدي مرفوعتان وجسدي يرقص فرحا، تذكرت ما أخبرني به “هاني“، نظرت إلى عين صورتي ونطقت الكلمة: “الرحمة” ها هي صورتي تعود بشرية مرة أخرى، اختفى اللون البرتقالي وابتسامة الشماتة من وجهي وتوقف جسدي عن الاهتزاز والرقص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى