مقال

هل كنت حيا بينكم؟!

الكاتبة السورية نسرين الطويل | سان فرانسيسكو

عندما تبدأ الحرب يجد المشرد الهارب من تحت القصف بالهلاك ذلك أن حدود وطنه الأربعة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق الى الغرب يحدها الموت من كل الجهات، وقد علق أحد المشردين يوما متهكما على أحد الشعراء حين قال:
عندما تبتدئ لعبة الموت لا فرق بين من يقتل أو بين القتيل ! فأجابه كيف يكون ذلك فهناك من أضحى مسافراً هو وعائلته في بلاد الله وأستوطن في بلاد الغرب و علق في صدر بيته خارطة وطنه الذي سرقه وحرقه وحتى دمره، أما نحن فبعد أن دفنا أهلنا تحت أنقاض الذكريات بموت وطننا لم نأخذ خارطة لنضعها على شاهدة قبور من رحل، لأن خارطة وطننا مرسومة وحتى منحوتة حتى النخاع في قلوبهم، وتابع قوله، ويوم أن قلت له بأنني كاتبة! ضحك ساخرا مني قائلاً:
أتمنى أن لا تكوني مثل ذاك المخرج الذي يعمل لمحطة تلفزيونية وقد أخذ يصور مأساة تشردنا ونحن ننتعل أرصفة غربتنا وقهرنا نصف عراة والجوع يأكل أحلامنا ليسرق منها قطعة خبز لم نأكلها وحتى لم تصل لشفاهنا، فبعد أن أنهى كذبة تصوير الواقع الأليم لنا ، عاد مرتديا طقمه الفاخر وحذائه اللامع إلى الفندق بأنجمه الكثيرة وراح لينام مع زوجته وأبنائه وكانت في انتظاره مائدة عشاء عامرة بما لذ وطاب.
أما نحن فصدقنا أكاذيب نفضت الغبار عن أحلام عودة إلى وطن ما عاد له ذكرى في خارطة حياة وقد أضحى وطننا موتا خيم على أجساد الأبرياء.
إن أطفال التشرد لا يختارون تشردهم ولا جوعهم وحتى ضياعهم فحتى الرصيف الذي ألقوا عليه بنسيان ليوسدوا رؤوسهم عليه اختاروه وقد كان مفروضا عليهم، ينتظرون من الشتاء إلى الشتاء ليستحموا بأمطار السماء ومن أراد أن يتأكد يستطيع أن يشتم رائحة تزكم أنفه عند مروره بأكوام التشرد دون أن يأنف من الرائحة.

تحت قذائف الحرب والموت والدمار كان هؤلاء المشردين وفي يوم رحيلهم وتهجيرهم على ذاك الرصيف الذي كان فراشهم وملاذهم الوحيد وقد ألتحفوا سماء الشتاء ، فتحت صوت النعال المؤنقة رؤوسهم وكادت أن تصحوا أحلامهم بينما ينتظرون موتاً عاجلاً كي يفسحوا للعابرين فرجة لمرورهم بعد أن ضيقوا عليهم باحتلالهم الأرصفة مساحة من رصيف .

إن المأساة الكبرى للمشردين أنهم لم يخوضو أي حرب ولم يحملوا أي سلاح إلا أنهم خسروا جميع حروبهم ووضعت في أعناقهم كل الهزائم وحتى دماء أبرياء لم يقتلوهم ولم يعتدوا على حياة أحد منهم ولم يدنسوا حتى أحلامهم ، ومع ذلك حملوا أوزاراً ما كانوا ليحملوها وعلق التاريخ الكاذب على صدورهم أوسمة الخائنين بمرتبة الشرف .

إن أسرع طريقة للقضاء على التشرد أن نكون جميعنا مشردين حتى نشعر ونحس بآلامهم و خيباتهم و جوعهم وحتى معنى أن ننام على الارصفة بفقد ملتحفي الخوف والموت القادم مع الصبح الجديد .
ليس من العدل بمكان أن تنتظروا ممن يأكل من القمامة وأن تشرحوا له فوائد فرشاة ومعجون الأسنان ، و لا إن نام بين القاذورات أن يضع خلفه على الجدار حيث ينام لوحة ( النظافة من الإيمان)، وكم كذبوا عليه ليشعلوا في قلبه الحنين بأن حب الوطن أيضا كان من الإيمان، وليدرك الجميع أن أي محطة للقطار تحت الأرض تقِ من مطر السماء سوف تكون وطناً أغلى من وطنه وفي تشرده أغتصب من باع الأوطان ما بقي داخل قلبه من إيمان حتى وبكل وقاحة اغتصبوا المشردين ذكورا واناثا على حد السواء فالاعتداء بالمال كان مقابل طعام العشاء .

عندما تجف وتيبس أحرف كتبت بماء وسراب على شفاه وأسنان صفرٍ لمشرد وقد خيطت شفاهه الخرساء بإبر مسمومة وذاك الخيط قد جدل بلهيب من نار، وتُنهش تحت أقدام تشردهم طريق العودة للأوطان ، والقلب المرتجف تحت صدور الخوف يخشى أن تطاله بموت رصاصة قناص، وإسراب الدمع الباكي على من غاب بموت تعلق بصلاة الغائب وحتى بآيات الرحمن على من قضى تحت الأنقاض ، تتجمد الأنفاس المحبوسة بين شهيق وزفير للمنسي تحت الموت وتحت النار وحتى تحت قصائد نُعي بها يوم رثاء ، حتى ذاك المشرد يبصر أن قضاء الله بموت سيأتي له على أهون الأسباب وهو ما يأمله من بعد انتظار..

وفي نهاية مطاف الشقاء والعذاب لن يخرج ذاك المتشرد من أرصفة القهر سوى من صفر حياة وقد مات تحت أنياب الجوع ، لكن ما كان يضحكه ويبكيه يوم أن صلوا عليه بموت عندما سأل نفسه على استحياء ، هل كنت من قبل الموت بينكم على قيد حياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى