١٧ رمضان غزوة بدر الكبرى
خالد رمضان | كاتب مصري
تقول الحكمة العربية: كلٌّ له نصيبٌ من اسمه .
إن غزوة بدر وإن سميت بذلك نسبة إلى بئر بدر الذي نزل عنده المسلمون، إلا أن الكلمة تحمل بين طياتها معاني أسمى ما تكون، إذ أخذت من البدور والتبكير، ومنها البدر المضئ الذي يمحو الظلام الجاثم على قوارع الطرقات، فالغزوة كانت البداية الحقة والمبكرة للمسلمين للوقوف على أقدامهم أمام قوى الطغيان التي بغت في الأرض وتجبرت وهجّرت أناسا أبرياء من ديارهم لا لشئ إلا أن يقولوا ربنا الله .
وقد شهدت تلك الغزوة من الغرائب و العجائب ما يشهد به القاصي والداني لهؤلاء العظماء الخُلّص الأنقياء الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله فأيدهم سبحانه وتعالى بجنود لم يروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة رجل جُلهم من الأنصار، والقلة القليلة من المهاجرين، محاولا اعتراض قافلة لقريش في رحلات التجارة المعروفة للشام بقيادة أبي سفيان بن حرب، الذي استطاع بذكاء تغيير الطريق والإفلات بالقافلة من الأسر والسلب، ولكن أبا جهل عمرو بن هشام ما جعل هذا الأمر يمر مرور الكرام، فأخذ يدق طبول الحرب حتى جمع جيشا عرمرما ليلقن المسلمين الدروس والعبر التي ردها الله تعالى في نحره، حيث قال :” ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا “
وهنا وبعد هروب القافلة ومجئ أكبر صناديد الكفر بالجيش الجرار أُسقط في أيدي النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يحارب بهذه العصابة القليلة المحدودة العدة والعتاد، والتي ما خرجت لحرب ولا استعدت لها ، فاللقاء غير متكافئ، وهو يخشى عليهم القتل والتشريد؟
أم يعود فارا من هؤلاء الشراذم الذين لا وزن لهم عند الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم؟
فأشار على الجميع وبالطبع وافق المهاجرون لحم النبي صلى الله عليه وسلم ودمه، فأعاد القول : أشيروا عليّ أيها الناس، وهنا تكلم سعد بن معاذ وقال : وكأنك تعنينا يا رسول الله !
فقال صلى الله عليه وسلم: نعم يا سعد
فقال سعد : يا رسول الله لقد ٱمنا بك وصدقناك، وأعطيناك العهد على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أنت ماضٍ إليه، فوالذي بعثك بالحق لو خضت بنا عُرض البحر لخضناه معك ولا تخلف منا رجل واحد .
وهنا انفرجت أسارير وجه النبي صلى الله عليه وسلم إذ ما كان يريد أن يجحفهم في حرب وقتل وبأس شديد مكرهين كارهين لما فرضه عليهم .
أي تكافؤ بين جيش قوامه ألف أو يزيد أمام ثلاثمائة رجل ليس معهم سوى فرسين؟
هنا يلجأ النبي صلى الله عليه وسلم لربه الذي يؤيده وينصره ولا يخذله رافعا يديه حتى تبدّى بياض أبطيه قائلا : يارب اللهم إن قريش قد جاءت بخيلها وخيلائها تحارب دينك اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض بعدها . أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وتتوالى العجائب ويأتي طفلان صغيران وهما معاذ ومعوذ أبناء عفراء، ويسألان عبد الرحمن بن عوف ويقولان : يا عماه أين أبو جهل؟
فقال لهما : وماذا تريدان منه؟
قالا نريد قتله لأننا سمعنا أنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما ظهر قال لهما: هذا بغيتكما ، فانقضا عليه كالصقرين فأردياه قتيلا، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: كلاكما قتله، هل مسحتما سيفيكما؟
قال: لا
فلما رٱه صلى الله عليه وسلم وجد سيف معاذ يشخب دما قال أنت قتلته يا معاذ، ثم يأتي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ويصعد صدره حتى يعتليه بقدميه، فيقول الصريع: لقد ارتقيت مرتقى عظيما يا رويعي الغنم، وكأنه يهين الصحابي حتى عند وفاته، والكبر يملؤه فكأن الله أراد له أن يموت على ما عاش عليه ، وهنا يحز رأسه ويسحبها من الأذن حتى وصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حُزّت أذنه ، فيبتسم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لعبد الله بن مسعود: أذن بأذن والرأس زيادة .
وتتوالى العجائب ومنها : أنه كان هناك شاعر كان يؤذي النبي بشعره ، وقد تمكن النبي منه أكثر من مرة يُدعى ( بو عزة )، فحينما كان يمسك به النبي يقول له : يا محمد أنا مسكين وليس لي أولاد ذكور، وخلفي بنات اتركني أعود لهن فليس لهن سواي، فيرق قلب النبي صلى الله عليه وسلم له ويتركه بعد عهده بعدم التعرض له وللمسلمين، وللأسف عاد بو عزة ضاربا بعهده مع رسول الله عُرض الحائط ، ولسوء حظه وقع أسيرا مع السبعين من بني جلدته من المشركين، فحين جاء دوره ليُقتص منه تمسكن وتنعم وتلون كالحرباء مستعطفا الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا : يا محمد إن لي بناتا …….
فقبل أن يكمل بادره رسول الله قائلا له : والله لا أدعك تهز عارضيك (كتفيك) بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين، فكان ممن قتلوا جزاء بما كانوا يكسبون .
وتتوالى العجائب إذ أيد الله تعالى رسوله وجنوده بجنود من عنده فقال: ” وأنزل جنودا لم تروها “
ولا يكون ذلك إلا للأصفياء الأنقياء الأتقياء فقال تعالى ” الٱن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين”
وقال ” وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى “
وتتوالى العجائب
بعد هزيمة المشركين تلك الهزيمة المدوية التي هزت أرجاء شبه الجزيرة العربية، وجعلت للمسلمين في المدينة وخارجها شوكة قوية ومهابة غير مسبوقة النظير، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى وأعطاهم فرصة للحياة على أن يعلم كل أسير عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، تأمل بُعد نظر النبي وحرصه على تنوير عقول المسلمين، وكأنه أراد أن يرسخ لكل من جاء بعده من القادة أن يمحو كل واحد منهم غبار الجهل من عقول شعبه ورعيته حتى تتسنى لهم الحياة على بصيرة وهداية لا جهالة وغواية.
إن غزوة بدر الكبرى التي كانت يوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك ستظل ذكرى تروى حتى يوم القيامة، لا ينضب معينها ، ولا تنتهي عجائبها فقط ما وفقنا الله له تذكرة يسيرة ما كان ينبغي لنا أن تمر دون التعرض لنفحاتها المباركة، بل سنظل نرويها لأبنائنا وطلابنا وجيراننا وأصدقائنا وزملائنا حتى تكون مفخرة التاريخ من هؤلاء العظماء الذين ضن الزمان أن يجود بأمثالهم .