قراءة نقدية في أنشودة شمس لـ(بشرى أبو شرار)

وليدة عنتابي | شاعرة وناقدة سورية

شمس الأعماق تسطع في الآفاق

تأسرني درة أخرى من فرائد الأديبة العربية اللامعة الأستاذة : بشرى أبو شرار ، مهداة إلى أمها التي تفرز رمزا أثيرا لديها لارتباطها بالأرض ، مشكلة في وعيها الدفء والاحتواء .
تبدأ الرواية بمدخل يمهد لمقاطعها التي صاغتها كأناشيد هي بمثابة لوحات لمناجاة مطولة بينها وبين الآخر الذي يربط بينها وبينه حبل هواء على حد تعبيرها .


ذلك الآخر الغائب عن العين والماثل في الوجدان .
تبدأ الرواية بمدخل يمهد لمقاطعه التي صاغتها على شكل لوحات عنونت كل لوحة منها بأنشودة أخذت رقما ، في تسلسل محفز لمتابعة مجريات أحداثها من وراء ستار شفاف سارد لمشاهد طبيعية ووجدانية آسرة .
يتوزع المدخل بين حراك مشاغب وسكون راصد ، لتنطلق إلى أناشيدها ، تلك الأناشيد التي تشكل فصولا لرواية تكاد تتبدى مقاطع من شعر منثور ، تبوح من خلاله بكل ماحفلت به روحها المتوثبة من تعطش للتواصل والخروج من مضيق الأنا إلى فضاء الآخر ، لتنهي تلك الأناشيد بخاتمة تفترش فيها نصاعة أوراقها وقد تحررت من سطورها لتحلق في سماء الحياة ، حيث تعود على حوافي زهور الليلك زهرة برية ، وبالتالي طفلة صغيرة تغادر حضن أمها .
تحكي بشرى أبو شرار ، حكاية المهجر الذي تتقاذفه أقطار الأرض في مشارقها ومغاربها ، وقد امتطت متن السرد المغاير للتقليدي في تشكيل مجدد أضفى على الرواية حيوية الخروج عن المألوف ، لتجعلنا نترنم مع أناشيدها متشوقين إلى الدخول في جوانية مشاعرها وأحاسيسها ، في تواصلها مع الغائب الحاضر ، خلال خيط هواء ، هو كل ما يمكن أن يؤكد لهما أنهما على قيد حياة .
تتجلى الأم كارتباط أسمى في مفهومها ، وكمرجع حميم تماما كما الأرض هي .
( أمنيتها لو تفترشه وتطلق لجسدها العنان ، تريحه وتجوس براحتها في تراب الأرض تفركه بين أناملها ، تتحد بطينه ، ثم تعقد راحتيها تحت رأسها كوسادة ، تعانق الفروع والوريقات وأحمال الزيتون ، تحبسها كتنهيدة في صدرها ، لا تطلقها للريح ويسافر بها بعيدا ) .
في شتات مطلق يسكنها هاجس العودة، حيث يكبر الصغار بعيدا عن منابتهم ، و(كيف يصبح الكبار صغارا في عالم ليس لنا ) .

تشكل الزنبقة لديها رمزا للنقاء والطهر ، فتراها تخاطب ابنتها علية (يا زنبقتي الوحيدة .. هل نظرت حولك وتأملت المكان جيدا بعد شهقة من عطر أنفاسك الطيبة .. ) .
تأخذنا أنفاسها الروائية المعطرة بأبخرة سحرية ، إلى أجواء منداة بقطرات منعشة ، هي خلاصة إكسير سري التركيب ، ينشي الحواس ؛ وتتلقفه الذائقة مهيبا بنا أن هيا لنحي تلك المسكونة بهاجس الحرية والسارية في مداها الأقصى (ابنة الأثير أنا .. منزلي في السماء ، أمقت التقيد والأغلال ، تبحث عني ابتسامة جريحة صاعدة من أعماق الأرض ، أهداب ثوبي تطلق سراح جسدي ، أركن للخواء حتى القاع ، أرنو للنجوم النائية .. ) .
إنها في تفردها اللافت وخصوصيتها المميزة تتأبى على الانصياع لبهارج المدنية ومغرياتها وبالتالي فهي لا تخشى الظلام لأنها الشمس في حقيقتها المطلقة ، وقد ذرت إنارتها الأبدية .(زهرة الأقحوان لا تعرفها مصابيح المدينة .. ولا تخاف من حزن الليل ، لا تلم أوراقها إلا على خيوط الشمس الأبدية ، تلهب قلبها فتصير أوراقها أجنحة تحلق وراء الشمس .. ) .
إنها في خطابها لأمها الراقدة على فراش النهاية تبسط جناح الحب من اللوعة لتظلل هجيرالمعاناة ( أمي من علمتني أسماء الفصول ، ورائحة الأرض ، تفوح بقوة ، وأشجار نخرة، وشحبرات وليدة تشرع للجفاف والذبول قبل ان تبلغ نضجها ، قلبي يرتجف وأنا أقتفي زهرات البنفسج ، تعانق وجهي خيوط العنكبوت اللزجة وأنا التي أسكن أعماقي ، لا تبلغني أشعة الشمس ، هل جف نبعي قبل الأوان؟ ) .

في أناشيدها الثماني والخمسين عوالم من أثير تستقطب روحها الفتية العالقة بين ارض غير متاحة وسماء تسطع بشمس أعماقها ناشرة أشعتها المتجددة على الدوام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى