أدب

وقفة أسير مع الشعر الفلسطيني

بقلم: رائد محمد الحواري

عن منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله، صدر عام 2021 كتاب “وقفات مع الشعر الفلسطيني” للأسير الأديب كميل أبو حشيش.
الشاعر الجيد هو الذي يجعل القارئ يشعر وكأن القصيدة له، عنه، منه، من هنا تجدنا نستمتع/نتوقف عند شعراء، ونمر مرورا سريعا على غيرهم، الأسير كميل أبو حنيش شاعر، روائي، ناقد، باحث سياسي، مفكر، فهو يجيد الكتابة في أكثر من مجال، وهذه خاصية قلة من يتقنها.


في كتاب “وقفات مع الشعر الفلسطيني” يتناول الناقد أكثر من شاعر وشاعرة، “أسامة ملحم” في 11 صفحة، “آمال عواد رضوان” 37 صفحة، “إيمان زياد” 11صفحة، “شذى أبو حنيش” 19 صفحة، “عفاف خلف” 39 صفحة، “عمر الخيام” 11 صفحة، “فاتن مصاروة” 12 صفحة، “فراس حج محمد” 11 صفحة، “مرزوق حلبي” 11 صفحة، “مظفر النواب”40 صفحة، “نداء يونس” 62 صفحة، أردت من هذه الإحصائية أن أبين كيف/أين وجد كميل ذاته، فهو يتناول ست شاعرات، وخمسة شعراء، وهذا يشير إلى انحيازه للمرأة، فنلاحظ أن عدد الصفحات التي كتبها عن أعمال الشاعرات يتفوق على ما كتبه الشعراء، فهناك “آمال وعفاف كتب عنهن أكثر من ستين صفحة، بينما اكتفى بكتابة 11 صفحة عن الشعراء، إذا ما استثنينا “مظفر النواب”، وهنا ننوه إلى أن هناك خطأ في العنوان، حيث أن الناقد تناول الشاعر “مظفر النواب” من خارج فلسطين، وكان الأصح أن يكون العنوان “وقفات مع الشعر”، دون تحديد المكان الشعراء.


وهنا نطرح أكثر من سؤال لماذا هذا الانحياز للمرأة؟، أليس أولى على شاعر/ناقد/كاتب/مناضل أن يهتم بالأدباء/بالشعراء أكثر؟، أليس من المفترض أن تكون دراسته متعلقة بأدب المقاومة أكثر من تناوله لشعر المرأة، كما فعل حين تناول شعر “مظفر النواب” ؟.
الإجابة على هذه الأسئلة تأخذنا إلى كميل الإنسان، كميل المحكوم بتسعة مؤبدات في زنازين الاحتلال، سنحاول التوقف عند المقاطع التي تناولها الناقد في كتابة لتبيان إنسانيته وهمومه كمواطن يعيش حالة قهر ووجع غير مسبوقة، ونبدأ بالشعراء والمقاطع والاقتباسات التي تأثر بها أكثر من غيرها وجعلها مكان دراسته ومحورها، نبدأ بالشاعر “أسامة ملحم” ينقل عن الشاعر:
“كل هذه الشموع الخامدة
ولا عود ثقاب” ص8.
نلاحظ أن الشموع التي تحدث عنها “ملحم” تنطبق على حالة كميل وبقية الأسرى القابعين في الأسر، فالناقد وجد في هذا المقطع ما يلائم حالته/واقعه، فكان الاقتباس متعلق بما يشعر به الناقد، وهذا ما نجده في قصيدة في “الظل نسوني”:
” أقبع في صمت العزلةِ والظلِّ وحيدًا
لا تشرقُ شمس الصبحِ على نافذتي…
لا العصفورُ يغرّد على أغصاني…
والجدران تحاصرني… وتضيق عليّ
إذا اتّسع خَواء القلب.. الأبواب تسدُّ طريقي
وأحبّائي… تركوني في الظلّ طويلًا”
فالشاعر وجد ما يتماثل مع واقعه في الأسر، فكان اختياره لهذا المقطع يعكس ما يحمله في الوعي واللاوعي، ويختار مقطع آخر لملحم:
“كل هذه الغلال في الحقول
ولا لقمة تسد جوع جائع؟
وهذه الزهور ولا ذرة ربيع؟
كل هذه المراعي
ولا قطرة حليب أو خيط صوف للشتاء القادم؟” ص10.
فالناقد يبحث عن القصائد التي تحاكي ألمه/وجعه/واقعه، فوجد مبتغاه في هذه المقاطع.
أما رباعيات “عمر الخيام” فنجد فيها البعد الفلسفي، والعزلة، والصوفي، والتمرد، وبما أن الأسر والمؤبدات يجعله يشعر بعبثية الحياة/الوجود فقد وجد في هذا المقطع للخيام ما يتماثل وواقعه:
” لا يورث الدهر إلا الهم والكمدا واليوم إن يعط شيئا يسلبه غدا
من لم يجيئوا لهذا الهدر لو علموا ماذا تكابد منه ما أتوا أبدا” ص138، هذا المقطع كتب كميل ما يماثله في قصيدة: “في البعيد البعيد” التي يقول فيها:
“هناك.. وعندئذ في البعيد البعيد
سأصبح مثل غبار
بلا أيّ معنى
كما الآخرين بقبلي استحالوا غبارًا
وبعدي الجميع سيغدون مثلي غبارًا.. يطير”
فكرة عبث الوجود حاضرة في الحالتين، فالقارئ الذي يعرف كميل يعلم لماذا جاء اختياره لنصوص الخيام وتناولها ودراستها وتحليلها، فهما كميل والخيام تناولا حالة عبث الحياة/الوجود.
وعندما تناول “فراس حج محمد” ركز في تناوله للحب/للمرأة فيختار هذه المقطع:
وتظلين أقرب مني إلي
أشم عطرك الطازج الأنثوي
وكأنه السر الذي لا ينتهي” ص161.
هذه النظر للمرأة تتوافق مع طرح كميل في قصيدة “تراخي اشتداد السلاسلك”:
” كميل أبو حنيش

ما زلتَ تحلم … يا مكبل بالحديدِ
برسمها، بعيونها
ورنين ضحكتها الندية
حينما كانت تجيء إليكَ
يانعةٌ تميسُ بقدّها
فتفوحُ بالريحان كل خمائلكْ
كانت تبددُ عنك أكداس
الهواجس والكوابيس التي
تكتظُ في ذاك الزمان بداخلكْ
ولطالما أهدت إليك جنانها
وأريج سوسنها الزكيِّ
فينجلي أرقاً عظيماً
كان يثقلُ كاهلكْ “
نلاحظ أن الديمومة/استمرار حضور أثر المرأة له وقع على كميل، من هنا اختيار مقطع يلبي رؤيته للمرأة ويتماثل مع نظرته إليها.
وتناول “مرزوق حلبي” الشاعر الفيلسوف والمفكر بأكثر من حالة، يختار مجموعة مقاطع ليتوقف عندها، من هذه المقاطع:
” الماضي حاضر بكثافة هنا
بكل طواعية
لا مستقبل لي سوى هناك
فمن يدربني على احتمال الرحيل؟” ص172.
الزمن، الوقت هاجس كميل وكل الأسرى، فهم يقتاتون على الماضي الذي يرونه أجمل ما عاشوه في الحياة، بينما يرون الحاضر قاتم بوقعه عليهم، هذا ما أكده كميل في قصيدة “أيام كان الحب” التي يقول فيها:
” والآن في هذا الغياب
يعيدني التّنقيب في الماضي البعيد
إلى رؤاي كعاشق، يرنو إليك وأنتِ
في ذاك الزّمان تحدقين إلى النّجوم
لتحدسي نبأ.. سيكشف ما تخبئه السّماء
وتهمسي: إنّ اللّيالي لا تدوم، وأنّ فجر الليل
يوشكّ أن يطلّ ويختفي هذا العناء”
نلاحظ أن الماضي هو الأمل، هو المستقبل، هو الغذاء الذي يتقوى به في مواجهة الحاضر، فتلاقي بينهما يؤكد أن العقل الباطن عند كميل يميل/ينحاز يلجأ إلى تلك المقاطع التي تتماثل مع الواقع الذي يعيشه.
وقد تناول مظفر النواب في أكثر من حالة، السياسة، العزلة، الصوفية، يختار مقطع يتماثل مع حالة العزلة التي يعاني منها:
“من أنت
يا أنت
يا قاحلا ليس فيك سوى الحزن” ص182.
هذا المقطع تناوله كميل في قصيدة “يكاد يخنقني صداي” التي يقول فيها:
” وأظلّ أهبطُ من ذراي؟
فمن أنا؟
أأظلّ أحترفُ الخرافةَ
كي أأوِّلَ ما يخبئه السديمُ الأولي
وكي أفرّ من الخلودِ إلى لظاي ؟
لا شيءَ يرجعُ من ندائي في البعيد
سوى الصدى المسكونِ بالهذيانِ “
نلاحظ حضور الأنا بقوة عند كميل ومظفر، وكذلك الفراغ، العبث، فكميل يتجه إلى تلك المقاطع التي يشفي غله، التي تحاكي حالته، من هنا يختار مقطع آخر لمظفر:
” أرحني قليلا
فأني بدهري جريح” ص187.
فحالة الوجع/الألم هي واقع كميل وبقية الأسرى، لهذا نجده يختار لتلك المقاطع التي تتحدث عنه وعن رفاقه في الأسر.
والآن نتوقف عند مقاطع الشاعرات، وكيف تم انتقاها الناقد، وسنأخذ الوقفات الأطول “آمال عواد رضوان” وديوانها “أدموزك وتتعشترين” في هذا الديوان نجد حضور قوي للأسطورة الملحمة الهلالية المتعلقة بالخصب، حتى أن الناقد يكتب مقدمة طويلة عشرة صفحات قبل أن يبدأ بتناول الديوان، وهذا يشير إلى اهتمامه بالأسطورة والملحمة، والآن نأخذ نماذج مما اقتبسه الناقد ليكون محل توقفه وتحليله:
” لمة غنجاء منك
تأتي علي وتجعل أنهاري على شفاه
تلملم امواهكي من نيرانكي

في تراقص
وكأنك في تزواج بي
يدخلني الضوء ب ويخارجني ضوئك

سأمتلئ سحبا تتعتق بنورك
وأتوهج كعينيك خيلاتك” ص50و51.
قلنا أن الناقد مهتم بالأسطورة والملحمة، حتى أنه كتب قصيدة: “درب الانعتاق يتحدث فيها عن البعل/تموزي، يقول فيها:
” تختلط الألوان عليّ ولا تلبث
أن تنكمشَ الأحزانُ وتنغلق.
تنبتُ أفراحي كزهورٍ حمراءَ
على الثّلجِ الأبيضِ…
أتسربلُ برداءِ الفرحِ إذا هبّ
نسيمُ الفردوسِ المفقود
سأبكي بقلبِ حنينًا وأصيرُ سحابةَ شوقٍ تندلق
*****
أتدفقُ حلمًا كالغيمِ الأبيضِ يركضُ في الأفقِ…
سألتمسُ النّومَ وأنطفئُ…
أنصبُ مصيدةً للأحلامِ الهاربةِ…
وأسترقُ النّظراتِ إلى حلمي
فأرى أسرابَ فراشاتٍ وعصافيرٍ…
أزهارٌ تتفتحُ في الحلمِ سأنطلق
وأرى امرأةً تشبه حواء الأولى تتراءى
من بينِ سديمِ الحلم تدنو
وتلامسني وتهيئني بالحبّ وتلتصق
أتذوقُ تفاحَ خطيئتها
وتحطُ عصافيرَ الحلمِ على
مهدِ القلب ثم تطيرُ وتحترق”
هذا الانتقاء لديوان وتوقفه عند ما جاء فيه، يلبي رغبات الناقد المعرفية في تناول الأسطورة والملحمة من جهة، ومن جهة أخر تلبي رغباته كرجل يريد أن يحيا حياة سوية/عادية كحال بقية، فكان هذا الإسهاب في تناوله للديوان وما جاء فيه.
والوقفة الثانية عند “شغف الأيائل” لعفاف خلف حيث توقف الناقد مطولا، 39 صفحة، حيث تحدثت الأديبة عن رغبات المرأة العاطفية وحاجتها للرجل وميلها له:
“أقول أغرق فيك
لأني..
حوتني “أناك”” ص103.
وجاء في اقتباس آخر:
” لا قدسية
للماء بعدك
أهرقني هذا أنا
متداخل في
أنت
لو ناجيتني: هيت
لقلت: لك” ص105.
هذا المقطع يحاكي ما جاء في قصيدة ترخى اشتداد سلاسلك” التي يقول فيه:
” أتي اليك تسبحُ
فوق أجنحة الهيام
إذا استشاط بك الهوى والشوقُ
والشغف القديم يسربلكْ
هبها أتتك فلا تخيِّب عشقها
ان راودتك بحلمك الفتان
هاتفةً بحب : هيتَ لكْ
فألقي عليها ما تيسر من حنانكَ
من كلامك
علّها تهدي اليك رحيقها
وهديل ضحكتها البتول
فتستعيد الحب في أزهى ربيع مراحلك
وارنو إليها دائماً بعيون قلبك
كلما نهشتك أنياب الزمان
وكلما اشتد الحديد وكبلك
ولتعتنقها … كلما ضاقت بك الجدران
واعصر غيمها
لتفيض أرضك بالغلال
وينتهي عهد الجفاف … لعلهّا .”
فهنا نجد الأسطورة، التماهي مع الحبيبة، الطبيعة ورمزية الخصب، لهذا كان توقف الشاعر عند ديوان شغف الأيائل” مطولا ومفصلا.
لكن الوقفة الأطول، 61 صفحة، جاءت عند ديوان “كتابة الصمت” لنداء يونس، فكيف، ولماذا جاء توقف الناقد عند “نداء” أكثر من غيرها؟، وهل هذا يعود إلى قوة صوت الأنثى/المرأة عندها، أم أن هناك رغبات/حاجات أخرى تلامس ما يشعر به الناقد؟.
وهنا نأخذ شيء مما اقتبسه “كميل”:
“الطين ليس سرا فقط
بل سريرا” ص230.
دلني يا ويلي دلني
دل الطريق إلي” ص233.
“أين أنت؟
في كل مكان لست فيه” ص235.
“بلغة غريبة يتمتم الصمت في رأسي” ص245.
المسألة ليست فيزيلا
لكنها اللغة:
سرير غير معشب
لهذا يمكنني أن أصرخ
خذيني أيتها الرغبة
فأنا بحاجة إلى
سيد” ص248و249.
“يلقي الحب خطبة
حول أحقية الجسد
بأن يكون له
مرفأ” ص249.
“أريد أن أكون التفاحة والسهم
وهذا التداخل يحدث” ص251.
الزمن نورس يحلق فوق
صحرء.
أما أنه يقضي عقوبة بالعدم
وبعدين؟!
غدا هو الأمس
لكنه أبواب بلا سقف
أيضا
لنقل أن للغيب
عملا دائما” ص260و261.
إذا عندنا إلى مقاطع القصائد التي نقلناها عن “كميل” سنجدها تتماثل بطرحها، بفكرتها مع هذا الاقتباسات، فهناك، الصوفية، العزلة والوحدة، الألم، الزمن البليد/الكسيح الذي يعاني منه الناقد، الصوفية التي يردها/ يجدها ملاذه من واقع الأسر، المرأة وحاجته إليها كمخلص/كمنقذ، الأسطورة والملحمة ودورهما في خلق أفق له يساعده على الاستمرار في مواجهة السجان والجدران، وأيضا دورها (كماضي) في إبقاء ذاكرته عامرة بالحب/بالخير/ بالجمال/بالمرأة/بالطبيعة التي يفتقدها في الأسر، من هنا جاء اختيار الناقد “كميل أبو حنيش” لهذه الأعمال تحديدا لأنها تلائم حالته وتتماثل معها.
قبل المغادرة ننوه إلى وجود بعض الأخطاء المطبعية، مثل الشاعر والصواب “الشاعرة، والأسطورة، والأصح هي الملحمة، وهناك بعض الهفوات تتمثل بعدم وضع اقتباسات تخدم الشرح والتحليل الذي قدمه الناقد.

ملاحظة: قصائد الناقد منشورة على صفحة شقيقه “كمال أبو حنيش”
الكتاب من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، الطبعة الأولى 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى